فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد

بَابُ
من جلس فِي المسجد ينتظر الصلاة، وفضل المساجد
قَدْ تقدم فِي فضل انتظار الصلاة فِي المسجد من حَدِيْث أَبِي صالح، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، ومن حَدِيْث أَبِي بردة، عَن أَبِي موسى.

وخرج فِي هَذَا الباب ثَلاَثَة أحاديث:
الحَدِيْث الأول:
[ قــ :639 ... غــ :659 ]
- حدثنا عَبْد الله بْن مسلمة، عَن مَالِك، عَن أَبِي الزناد، عَن الأعرج، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، أن رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( ( الملائكة تصلي عَلَى أحدكم مَا دام فِي مصلاه، مَا لَمْ يحدث: اللهم اغفر لَهُ، اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم فِي صلاة مادامت الصلاة تحبسه، لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة) ) .

دل هَذَا الحَدِيْث عَلَى فضل أمرين:
أحدهما: الجلوس فِي المصلى، وَهُوَ موضع الصلاة الَّتِيْ صلاها: والمراد بِهِ فِي المجلس دون البيت، وآخر الحَدِيْث يدل عَلِيهِ.

قَالَ ابن عَبْد البر: ولو صلت المرأة فِي مسجد بيتها وجلست فِيهِ تنتظر الصلاة فَهِيَّ داخلة فِي هَذَا المعنى إذا كَانَ يحبسها عَن قيامها لأشغالها انتظار الصلاة.

( ( وإن الملائكة تصلي عَلِيهِ مَا لَمْ يحدث) ) وقد فسر صلاة الملائكة عَلِيهِ بالدعاء لَهُ بالمغفرة والرحمة، والصلاة قَدْ فسرت بالدعاء، وفسرت بالثناء والتنويه بالذكر، ودعاء الملائكة بينهم لعبد هُوَ تنويه منهم بذكره وثناء عَلِيهِ بحسن عمله.

وقد قيل: صلاتهم عَلِيهِ مقبولة مَا لَمْ يحدث.

وقد اختلف فِي تفسير الحدث: هَلْ هُوَ الحدث الناقض للوضوء، أو الحدث باللسان من الكلام الفاحش ونحوه، ومثله الحدث بالأفعال الَّتِيْ لا تجوز؟ وقد أشرنا إلى هَذَا الاختلاف فِي ( ( كِتَاب الطهارة) ) .

وذهب مَالِك وغيره إلى أَنَّهُ الحدث الناقض للوضوء، ورجحه ابن عَبْد البر؛ لأن المحدث وإن جلس فِي المسجد فهو غير منتظر للصلاة؛ لأنه غير قادر عَلَيْهَا.
أن منتظر الصلاة لا يزال فِي صلاة مَا دامت الصلاة تحبسه.

وقد فسر ذَلِكَ بأنه ( ( لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة) ) ، وهذا يشمل من دَخَلَ المسجد للصلاة فِيهِ جماعة قَبْلَ إقامة الصلاة فجلس ينتظر الصلاة، ومن صلى مَعَ الإمام ثُمَّ جلس ينتظر الصلاة الثانية.

وهذا من نوع الرباط فِي سبيل الله، كما قَالَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( ألا أدلكم عَلَى مَا يمحو الله بِهِ الخطايا ويرفع بِهِ الدرجات؟) ) قالوا: بلى يَا رَسُول الله.
قَالَ: ( ( إسباغ الوضوء عَلَى المكاره، وثرة الخطأ إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة؛ فذالكم الرباط، فذالكم الرباط) ) .

خرجه مُسْلِم من حَدِيْث العلاء بْن عَبْد الرحمن، عَن أبيه، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ.

وقد ورد تقييد ذَلِكَ - أيضاً - بما لَمْ يحدث.

خرجه البخاري فِي ( ( أبواب نواقض الوضوء) ) من رِوَايَة ابن أَبِي ذئب، عَن المقبري، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ( ( لا يزال العبد فِي صلاة مَا كَانَ فِي المسجد ينتظر الصلاة، مَا لَمْ يحدث) ) .
فَقَالَ رَجُل أعجمي: مَا الحدث يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: الصوت - يعني: الضرطة.

وقد سبق الكلام عَلِيهِ فِي موضعه، وذكرنا اخْتِلاَف النَّاس فِي تفسير الحدث والمراد بِهِ.

وقد فسره أبو سَعِيد الْخُدرِيَّ كما فسره أبو هُرَيْرَةَ - أيضاً.

خرجه الإمام أحمد.

ومعنى كونه فِي الصلاة - والله أعلم -: أن لَهُ أجر المصلي وثوابه بحبس نفسه فِي المسجد للصلاة.

وليس فِي هَذَا الحَدِيْث، ولا فِي غيره من أحاديث الباب الاشتراط للجالس فِي مصلاه أن يكون مشتغلاً بالذكر، ولكنه أفضل وأكمل، ولهذا ورد فِي فضل من جلس فِي مصلاه بعد الصبح حَتَّى تطلع الشمس، وبعد العصر حَتَّى تغرب أحاديث متعددة.
وهل المراد بمصلاه نفس الموضع الَّذِي صلى فِيهِ أو المسجد الَّذِي صلى فِيهِ كله مصلى لَهُ؟ هَذَا فِيهِ تردد.

وفي ( ( صحيح مُسْلِم) ) عَن جابر بر سمرة، أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذا صلى الفجر جلس فِي مصلاه حَتَّى تطلع الشمس حسناء.

وفي رِوَايَة لَهُ: كَانَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يقوم من مصلاه الَّذِي يصلي فِيهِ الصبح أو الغداة حَتَّى تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس قام.

ومعلوم؛ أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يكن جلوسه فِي الموضع الَّذِي صلى فِيهِ؛ لأنه كَانَ ينفتل إلى أصحابه عقب الصلاة ويقبل عليهم بوجهه.

وخرجه الطبراني، وعنده: كَانَ إذا صلى الصبح جلس يذكر الله حَتَّى تطلع الشمس.

ولفظة: ( ( الذكر) ) غريبة.

وفي تمام حَدِيْث جابر بْن سمرة الَّذِي خرجه مُسْلِم وكانوا يتحدثون فيأخذون فِي أمر الجَاهِلِيَّة، فيضحكون ويتبسم.

وهذا يدل عَلَى أَنَّهُ لَمْ ينكر عَلَى من تحدث وضحك فِي ذَلِكَ الوقت، فهذا الحَدِيْث يدل عَلَى أن المراد بمصلاه الَّذِي يجلس فِيهِ المسجد كله.

وإلى هَذَا ذهب طائفة من العلماء، منهم: ابن بطة من أصحابنا وغيره.

وقد روي عَن أَبِي هُرَيْرَةَ مَا يخالف هَذَا.

رَوَى مَالِك فِي ( ( الموطإ) ) عَن نعيم المجمر، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُول: إذا صلى أحدكم ثُمَّ جلس فِي مصلاه لَمْ تزل الملائكة تصلى عَلِيهِ، تَقُول: اللهم اغفر لَهُ، اللهم ارحمه، فإن قام من مصلاه فجلس فِي المسجد ينتظر الصلاة لَمْ تزل الملائكة تصلي عَلِيهِ فِي مصلاه حَتَّى يصلي.

فهذا يدل عَلَى أَنَّهُ إذا تحول من موضع صلاته من المسجد إلى غيره من المسجد انقطع حكم جلوسه فِي مصلاه، فإن جلس ينتظر الصلاة كَانَ حكمه حكم من ينتظرها، وصلت عَلِيهِ الملائكة - أيضاً -، فإن لَمْ يجلس منتظراً للصلاة فلا شيء لَهُ؛ لأنه لَمْ يجلس فِي مصلاه ولا هُوَ منتظر للصلاة.

قَالَ ابن عَبْد البر: إلا أنه لا يقال: إنه تصلي عَلِيهِ الملائكة.

يعني: عَلَى المتحول من مكانه وَهُوَ ينتظر الصلاة كما تصلي عَلَى الَّذِي فِي مصلاه ينتظر الصلاة.

يشير إلى أن الحَدِيْث المرفوع إنما فِيهِ صلاة الملائكة عَلَى من يجلس فِي مصلاه لا عَلَى المنتظر للصلاة.

ولكن قَدْ روي فِي حَدِيْث مرفوع، فروى عَطَاء بْن السائب، عَن أَبِي عَبْد الرحمان السلمي، عَن عَلِيّ، قَالَ: سَمِعْت رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُول: ( ( من صلى الفجر ثُمَّ جلس فِي مصلاه صلت عَلِيهِ الملائكة، وصلاتهم عَلِيهِ: اللهم اغفر لَهُ، اللهم ارحمه، ومن ينتظر الصلاة صلت عَلِيهِ الملائكة، وصلاتهم عَلِيهِ: اللهم اغفر لَهُ، اللهم ارحمه) ) .

خرجه الإمام أحمد.

وَقَالَ عَلِيّ بْن المديني: هُوَ حَدِيْث كوفي، وإسناده حسن.
وذكر ابن عَبْد البر - أيضاً - أنه يحتمل أن يكون بقاؤه فِي مصلاه شرطاً فِي انتظار الصلاة - أيضاً -، كما كَانَ شرطاً فِي الجلوس فِي مصلاه.

وهذا الَّذِي قاله بعيد، وإنما يمكن أن يقال فيمن صلى صلاة ثُمَّ جلس ينتظر صلاة أخرى، فأما من دَخَلَ المسجد ليصلي صلاة واحدة وجلس ينتظرها قَبْلَ أن تقام فأي مصلى لَهُ حَتَّى يشترط أن لا يفارقه؟
قَالَ: وقيامه من مجلسه، المراد بِهِ: قيامه لعرض الدنيا، فأما إذا قام إلى مَا يعينه عَلَى مَا كَانَ يصنعه فِي مجلسه من الذكر.

يعني: أَنَّهُ غير مراد، ولا قاطع للصلاة عَلِيهِ.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

الحَدِيْث الثاني:


[ قــ :640 ... غــ :660 ]
- حدثنا مُحَمَّد بْن بشار: ثنا يَحْيَى، عَن عُبَيْدِ الله، قَالَ: حَدَّثَنِي خبيب ابن عَبْد الرحمان، عَن حفص بْن عاصم، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ( ( سبعة يظلهم الله فِي ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ فِي عُبَادَة ربه عز وجل، ورجل قلبه متعلق فِي المساجد، ورجلان تحابا فِي الله اجتمعا عَلَى ذَلِكَ وتفرقا عَلِيهِ، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال، فَقَالَ: إني أخاف الله، ورجل تصدق، أخفى حَتَّى لا تعلم شماله مَا تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) ) .
هذه السبعة اختلفت أعمالهم فِي الصورة، وجمعها معنى واحد، وَهُوَ مجاهدتهم لأنفسهم، ومخالفتهم لأهوائها، وذلك يحتاج أولاً إلى رياضة شديدة وصبر عَلَى الامتناع مِمَّا يدعو إليه داعي الشهوة أو الغضب أو الطمع، وفي تجشم ذَلِكَ مشقة شديدة عَلَى النفس، ويحصل لها بِهِ تألم عظيم، فإن القلب يكاد يحترق من حر نار الشهوة أو الغضب عِنْدَ هيجانها إذا لَمْ يطفء ببلوغ الغرض من ذَلِكَ، فلا جرم كَانَ ثواب الصبر عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ إذا اشتد الحر فِي الموقف، ولم يكن للناس ظل يظلهم ويقيهم حر الشمس يومئذ، وكان هؤلاء السبعة فِي ظل الله - عز وجل -، فَلَمْ يجدوا لحر الموقف ألماً جزاءً لصبرهم عَلَى حر نار الشهوة أو الغضب فِي الدنيا.

وأول هذه السبعة: الإمام العادل.

وَهُوَ أقرب النَّاس من الله يوم القيامة، وَهُوَ عَلَى منبر من نور عَلَى يمين الرحمن - عز وجل -، وذلك جزاء لمخالفته الهوى، وصبره عَن تنفيذ مَا تدعوه إليه شهواته وطمعه وغضبه، مَعَ قدرته عَلَى بلوغ غرضه من ذَلِكَ؛ فإن الإمام العادل دعته الدنيا كلها إلى نفسها، فقالَ: إني أخاف الله رب العالمين.
وهذا أنفع الخلق لعباد الله، فإنه إذا صلح صلحت الرعية كلها.

وقد روي أَنَّهُ ظل الله فِي الأرض؛ لأن الخلق كلهم يستظلون بظله، فإذا عدل فيهم أظله الله فِي ظله.
الشاب الَّذِي نشأ فِي عُبَادَة الله - عز وجل -.

فإن الشباب شعبة من الجنون، وَهُوَ داع للنفس إلى استيفاء الغرض من شهوات الدنيا ولذاتها المحظورة، فمن سلم مِنْهُ فَقَدْ سلم.

وفي الحَدِيْث: ( ( عجب ربك من شاب ليست لَهُ صبوة) ) .

وفي بعض الآثار: يَقُول الله: ( ( أيها الشاب التارك شهوته، المتبذل شبابه من أجلي، أنت عندي كبعض ملائكتي) ) .

والثالث: الرَّجُلُ المعلق قلبه بالمساجد.

وفي رِوَايَة: ( ( إذا خرج مِنْهُ حَتَّى يعود إِلَيْهِ) ) ، فهو يحب المسجد ويألفه لعبادة الله فِيهِ، فإذا خرج مِنْهُ تعلق قلبه بِهِ حَتَّى يرجع إِلَيْهِ، وهذا إنما يحصل لمن ملك نفسه وقادها إلى طاعة الله فانقادت لَهُ؛ فإن الهوى إنما يدعو إلى محبة مواضع الهوى واللعب، إما المباح أو المحظور، ومواضع التجارة واكتساب الأموال، فلا يقصر نفسه عَلَى محبة بقاع العبادة إلا من خالف هواه، وقدم عَلِيهِ محبة مولاه.

وقد مدح عمار المساجد فِي قوله: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ - رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ - لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور: 36 - 38] .

وفي ( ( المسند) ) و ( ( سنن ابن ماجه) ) من حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ( ( لا توطن رَجُل المساجد للصلاة والذكر إلا تبشبش الله بِهِ كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم) ) .
وروى ابن لهيعة، عَن دراج، عَن أَبِي الهيثم، عَن أَبِي سَعِيد، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ( ( من ألف المسجد ألفه الله) ) .

ويروى عَن سَعِيد بْن المُسَيِّب، قَالَ: من جلس فِي المسجد فإنما يجالس ربه - عز وجل -.

الرابع: المتحابان فِي الله - عز وجل -.

فإن الهوى داع إلى التحاب فِي غير الله؛ لما فِي ذَلِكَ من طوع النفس أغراضها من الدنيا، فالمتحابان فِي الله جاهدا أنفسهما فِي مخالفة الهوى حَتَّى صار تحابهما وتوادهما فِي الله من غير غرض دنيوي يشوبه، وهذا عزيز جداً.

ولن يتحابا فِي الله حَتَّى يجتمعا فِي الدنيا فِي ظل الله المعنوي، وَهُوَ تأليف قلوبهما عَلَى طاعة الله، وإيثار مرضاته وطلب مَا عنده، فلهذا اجتمعا يوم القيامة فِي ظل الله الحسي.

وقوله: ( ( اجتمعا عَلَى ذَلِكَ وتفرقا عَلِيهِ) ) يحتمل أَنَّهُ يريد: أنهما اجتمعا عَلَى التحاب فِي الله حَتَّى فرق بَيْنَهُمَا الموت فِي الدنيا أو غيبة أحدههما عَن الآخر، ويحتمل أَنَّهُ أراد أنهما اجتمعا عَلَى التحاب فِي الله، فإن تغير أحدهما عما كَانَ عَلِيهِ مِمَّا توجب محبته فِي الله فارقه الآخر بسبب ذَلِكَ، فيدور تحاببهما عَلَى طاعة الله وجوداً وعدماً.

قَالَ بعض السلف: إذا كَانَ لَكَ أخ تحبه فِي الله، فأحدث حدثاً فَلَمْ تبغضه فِي الله لَمْ تكن محبتك لله - أو هَذَا المعنى.

الخامس: رَجُل دعته أمرأة ذات منصب وجمال.

ويعني بالمنصب: النسب والشرف والرفعة فِي الدنيا، فإذا اجتمع ذَلِكَ مَعَ الجمال فَقَدْ كمل الأمر وقويت الرغبة، فإن كَانَتْ مَعَ ذَلِكَ هِيَ الطالبة الداعية إلي نفسها، كَانَ أعظم وأعظم، فإن الامتناع بعد ذَلِكَ كله دليل عَلَى تقديم خوف الله عَلَى هوى النفس، وصاحبه داخل فِي قوله تعالى: { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] ، وهذا كما جرى ليوسف عَلِيهِ السلام.

قَالَ عُبَيْدِ بْن عمير: من صدق الإيمان وبره إسباغ الوضوء فِي المكاره، ومن صدق الإيمان وبره أن يخلو الرَّجُلُ بالمرأة الجميلة فيدعها، لا يدعها إلا لله عز وجل.

ومثل هَذَا؛ إذا قَالَ: ( ( إني أخاف الله) ) فهو صادق فِي قوله؛ لأن علمه مصدق لقوله، وقوله لها: ( ( إني أخاف الله) ) موعظة لها، فربما تنْزجر عَن طلبها، وترجع عَن غيها.

وقد وقع ذَلِكَ لغير واحدٍ، وفيه حكايات مذكروة فِي كِتَاب ( ( ذم الهوى) ) وغيره.

السادس: رَجُل تصدق بصدقة فاجتهد فِي إخفائها غاية الاجتهاد حَتَّى لَمْ يعلم بِهِ إلا الله.

وضرب المثال لذلك عَلَى طريق المبالغة: ( ( حَتَّى لا تعلم شماله مَا تنفق يمينه) ) .

وهذا دليل عَلَى قوة الإيمان والاكتفاء باطلاع الله عَلَى العبد وعلمه بِهِ، وفيه مخالفة للهوى ومجاهدة للنفس؛ فإنها تحب إظهار الصدقة، والتمدح بِهَا عِنْدَ الخلق، فيحتاج فِي إخفاء الصدقة إلى قوة شديدةٍ تخالف هوى النفس.
وخرج الإمام أحمد والترمذي من حَدِيْث أَنَس، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ( ( لما خلق الله الأرض جعلت تميد، فخلق الجبال فألقاها عَلَيْهَا فاستقرت، فعجبت الملائكة من خلق الجبال، فقالوا: يَا رب، فهل من خلقك شيء أشد من الجبال؟ قَالَ: نَعَمْ، الحديد.
قالوا: يَا رب، فهل شيء من خلقك أشد من الحديد؟ قَالَ: نَعَمْ، النار، قالوا: يارب، فهل من خلقك شيء أشد من النار؟ قَالَ: نَعَمْ، الماء.
قالوا: يارب، فهل من خلقك شيء أشد من الماء؟ قَالَ: نَعَمْ، الريح.
قالوا: يارب، فهل من خلقك شيء أشد من الريح؟ قَالَ: نَعَمْ، ابن آدم؛ يتصدق بيمينه يخفيها من شماله)
)
.

السابع: رَجُل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه.

فهذا رَجُل يخشى الله فِي سره، ويراقبه فِي خلوته، وافضلُ الأعمال خشية الله فِي السر والعلانية، وخشية الله فِي السر إنما تصدر عَن قوة إيمان ومجاهدةٍ للنفس والهوى، فإن الهوى يدعو فِي الخلوة إلى المعاصي، ولهذا قيل: إن من أعز الأشياء الورع فِي الخلوة.

وذكر الله يشمل ذكر عظمته وبطشه وانتقامه وعقابه؛ والبكاء الناشيء عَن هَذَا هُوَ بكاء الخوف، ويشمل ذكر جماله وكماله وبره ولطفه وكرامته لأوليائه بأنواع البر والألطاف، لا سيما برؤيته فِي الجنة، والبكاء الناشيء عَن هَذَا هُوَ بكاء الشوق.

ويدخل فِي - أيضاً -: رَجُل ذكر أن الله مَعَهُ حيثما كَانَ، فتذكر معيته وقربه واطلاعه عَلِيهِ حيث كَانَ يبكي حياء مِنْهُ، وَهُوَ من نوع الخوف - أيضاً.
وخرج الطبراني بإسناد فِيهِ ضعف، عَن أَبِي أمامة مرفوعاً: ( ( ثَلاَثَة فِي ظل الله يوم لا ظل إلا ظله: رَجُل حيث توجه علم أن الله مَعَهُ) ) .

وهذا الحَدِيْث يدل عَلَى أن هؤلاء السبعة يظلهم الله فِي ظله، ولا يدل عَلَى الحصر، ولا عَلَى أن غيرهم لا يحصل لَهُ ذَلِكَ؛ فإنه صح عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( أن من أنظر معسراً أو وضع عَنْهُ أظله الله فِي ظله يوم لا ظل إلا ظله) ) .

خرجه مُسْلِم من من حَدِيْث أَبِي اليسر الأنصاري، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وخرج الإمام أحمد والترمذي وصححه - من حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ( ( من نفس عَن غريمه، أو محا عَنْهُ كَانَ فِي ظل العرش يوم القيامة) ) .

وهذا يدل عَلَى أن المراد بظل الله: ظل عرشه.

الحَدِيْث الثالث:


[ قــ :641 ... غــ :661 ]
- حدثنا قتيبة: ثنا إسماعيل بْن جَعْفَر، عَن حميد، قَالَ: سئل أَنَس: هَلْ اتخذ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاتماً؟ فَقَالَ: نَعَمْ، أخر ليلة صلاة العشاء إلى شطر الليل، ثمَّ أقبل علينا بوجهه بعدما صلى، فَقَالَ: ( ( صلى النَّاس ورقدوا، ولم تزالوا فِي صلاة مَا انتظرتموها) ) .
قَالَ: فكأني أنظر إلى وبيص خاتمه.

قَدْ سبق هَذَا الحَدِيْث فِي مواضع من ( ( الكتاب) ) ، وَهُوَ بمعنى حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ المخرج فِي أول الباب.