فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب: هل تنبش قبور مشركي الجاهلية، ويتخذ مكانها مساجد

باب
هل تنبش قبور مشركي الجاهلية، ويتخذ مكانها مساجد
لقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( لعن الله اليهود؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) )
وما يكره من الصلاة في القبور
ورأى عمر أنس بن مالك يصلي عند قبر، فقال: القبر القبر، ولم يأمره بالإعاده.

مقصود البخاري بهذا الباب: كراهة الصلاة بين القبور واليها، واستدل لذلك بان اتخاذ القبور مساجد ليس هو من شريعة الإسلام، بل من عمل اليهود، وقد لعنهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك.

وقد خرج البخاري هذا الحديث فيما تقدم، وسيأتي قريبا - أن شاء الله تعالى.

وقد دل القران على مثل ما دل عليه هذا الحديث، وهو قول الله عز وجل في قصة أصحاب الكهف: { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً}
[الكهف: 12] ، فجعل اتخاذ القبور على المساجد من فعل أهل الغلبة على الأمور، وذلك يشعر بان مستند القهر والغلبة واتباع الهوى، وانه ليس من فعل أهل العلم والفضل المتبعين لما انزل الله على رسله من الهدى.
وإذا كرهت الصلاة إلى القبور وبينها، فإن كانت القبور محترمة اجتنبت الصلاة فيها، وأن كانت غير محترمة كقبور مشركي الجاهلية ونحوهم ممن لا عهد له ولا ذمة مع المسلمين فإنه يجوز نبشها ونقل ما يوجد فيها من عظامهم، والصلاة في موضعها؛ فإنها لم تبق مقبرة ولا بقي فيها قبور، وقد نص الإمام أحمد على ذلك في رواية المروذي.

وأما ما ذكره عن عمر - رضي الله عنه -، فمن رواية سفيان، عن حميد، عن أنس، قال: رأني عمر وأنا اصلي إلى قبر، فجعل يشير إلي: القبر القبر.

ورواه إسماعيل بن جعفر عن حميد، عن أنس، حدثه أنه قام يصلي إلى قبر لا يشعر به، فناداه عمر: القبر القبر.
قال: فظننت أنه يقول: القمر، فرفعت راسي، فقال رجل: أنه يقول: القبر، فتنحيت.

وروي عن أنس، عن عمر من وجوه أخر.

وروى همام: ثنا قتادة، أن أنسا مر على مقبرة وهم يبنون مسجدا، فقال أنس: كان يكره أن يبنى مسجد في وسط القبور.

وقال أشعث: عن ابن سيرين: كانوا يكرهون الصلاة بين ظهراني القبور.

خرج ذلك كله أبو بكر الأثرم.

وقال: سمعت أبا عبد الله - يعني: أحمد - يسال عن الصلاة في المقبرة؟ فكره الصلاة في المقبرة.
فقيل له: المسجد يكون بين القبور، أيصلي فيه؟ فكره ذَلِكَ.
قيل لَهُ: أنه مسجد وبينه وبين القبور حاجز؟ فكره أن يصلي فيه الفرض، ورخص أن يصلي فيه على الجنائز.
وذكر حديث أبي مرثد الغنوي، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( ( لا تصلوا إلى القبور) ) ، وقال: إسناد جيد.

وحديث أبي مرثد هذا: خرجه مسلم، ولفظه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ( ( لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها) ) .

وروي عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه عن أبي سعيد، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال:
( ( جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، إلا المقبرة والحمام) ) .

خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وابن حبان والحاكم
وصححه.
وقد اختلف في إرساله ووصله بذكر ( ( أبي سعيد) ) فيه، ورجع كثير من الحفاظ إرساله: عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، ومنهم: الترمذي والدارقطني.

وفي هذا الباب أحاديث أخر، قد استوفيناها في ( ( في كتاب شرح الترمذي) ) .

وأما ما ذكره البخاري: أن عمر لم يأمر أنسا بالإعادة.

فقد اختلف في الصلاة في المقبرة: هل تجب إعادتها، أم لا؟
وأكثر العلماء على أنه لا تجب الإعادة بذلك، وهو قول مالك، والشافعي، واحمد في رواية عنه.

والمشهور عن أحمد الذي عليه عامة أصحابه: أن عليه الإعادة؛ لارتكاب النهي في الصلاة فيها.

وهو قول أهل الظاهر - أو بعضهم -، وجعلوا النهي هاهنا لمعنى يختص بالصلاة من جهة مكانها، فهو كالنهي عن الصلاة المختص بها لزمانها كالصلاة في أوقات النهي، وكالصيام المنهي عنه لأجل زمنه المختص به كصيام العيدين.

حتى أن من أصحابنا من قال: متى قلنا: النهي عن الصلاة في المقبرة والأعطان ونحوها للتحريم، فلا ينبغي أن يكون في بطلان الصلاة فيها خلاف عن أحمد، وإنما الخلاف عنه في عدم البطلان مبني على القول بأنه مكروه كراهة تنزيه.

وأكثر العلماء على أن الكراهة في ذلك كراهة تنزيه، ومنهم من رخص فيه.

قال ابن المنذر: اختلفوا في الصلاة في المقبرة، فروينا عن علي وابن عباس
وعبد الله بن عمرو وعطاء والنخعي أنهم كرهوا الصلاة فيها.
واختلف عن مالك فيه، فحكى ابن القاسم عنه أنه قال: لا باس به، وحكى أبو مصعب عنه أنه قال: لا أحب ذلك.

قال ابن المنذر: ونحن نكره من ذلك ما كرهه أهل العلم استدلالا بالثابت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: ( ( اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، ولا تتخذوها قبورا) ) ، ففي هذا دليل على أن المقبرة ليست بموضع للصلاة.

قلت: قد استدل البخاري بذلك - أيضا - وعقد له بابا مفردا، وسيأتي في موضعه - إن شاء الله تعالى.

قال ابن المنذر: وقد قال نافع مولى ابن عمر: صليتا على عائشة وأم سلمه وسط البقيع، والإمام يومئذ أبو هريرة، وحضر ذلك ابن عمر.

قلت: صلاة الجنازة مستثناة من النهي عند الإمام أحمد وغيره، وقد سبق قول أحمد في ذلك.
وقال أيضاً -: لا يصلي في مسجد بين المقابر إلا الجنائز؛ لأن الجنائز هذه سنتها.

يشير إلى فعل الصحابة - رضي الله عنهم -.

قال ابن المنذر: وروينا أن واثلة بن الأسقع كان يصلي في المقبرة، غير أنه لا يستتر بقبر.

قلت: لأنه هو روى عن أبي مرثد حديث النهي عن الصلاة إلى القبور، فكان يخص النهي بحاله استقبال القبر خاصة.

قال ابن المنذر: وصلى الحسن البصري قي المقابر.

قلت: لعله صلى على جنازة، فإنه روي عنه أنه أمر بهدم المساجد المبنية في المقابر.

قال: وكره عمر بن الخطاب وأنس بن مالك الصلاة إلى المقابر.
انتهى ما ذكره.

واختلف القائلون بالكراهة في علة النهي:
فقال الشافعي: علة ذلك النجاسة، فإن تراب المقابر يختلط بصديد الموتى ولحومهم، فإن كانت طاهرة صحت الصلاة فيها مع الكراهة.

وقسم أصحابه المقبرة إلى ثلاثة أقسام: ما تكرر نبشها، فلا تصح الصلاة فيها، لاختلاط ترابها بالصديد.
وجديدة لم تنبش، فيصح الصلاة فيها مع الكراهة؛ لأنها مدفن للنجاسة.

وما شك في نبشها، ففي صحة الصلاة فيها قولان.

وأختلف أصحابنا في علة النهي [عن الصلاة] ، فمنهم من قال: هو مظنة النجاسة، ومنهم من قال: هو تعبد لا يعقل.

وقالو مع هذا: لا فرق بين أن تكون قديمة أو حديثة، نبشت أو لم تنبش، إذا تناولها اسم مقبرة.

قالوا: فإن كان في بقعة قبر أو قبران فلا بأس بالصلاة فيها وما لم يصل إلى القبر.

وأنكر آخرون التعليل بالنجاسة، بناء على طهارة تراب المقابر بالاستحالة، وعللوا: بان الصلاة في المقبرة والى القبور، إنما نهى عنه سدا لذريعة الشرك، فإن اصل الشرك وعبادة الأوثان كانت من تعظيم القبور، وقد ذكر البخاري في ( ( صحيحه) ) في ( ( تفسير سورة نوح) ) عن ابن عباس معنى ذلك، وسنذكره فيما بعد - أن شاء الله.

وفي ( ( صحيح مسلم) ) عن جندب، سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يموت بخمس يقول: ( ( أن من كان قبلكم يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك) ) .

وهذا يعم كل القبور.

وخرج الإمام أحمد وابن حبان في ( ( صحيحه) ) من حديث ابن مسعود، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( أن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، ومن يتخذ القبور مساجد) ) .

وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي صالح، عن ابن عباس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( لعن الله زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج) ) .

وقال الترمذي: حسن - وفي بعض النسخ: صحيح.

وخرج ابن حبان فِي ( ( صحيحه) ) والحاكم وصححه.

واختلف في أبي صالح هذا، من هو؟
فقيل: إنه السمان -: قاله الطبراني، وفيه بعد.
وقيل: إنه ميزان البصري، وهو ثقة؛ قاله ابن حبان.
وقيل: إنه باذان مولى أم هاني -: قاله الإمام أحمد والجمهور.

وقد اختلف في أمره:
فوثقه العجلي.
وقاله ابن معين: ليس به باس.
وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتاج به.
وقال النسائي: ليس بثقة.
وضعفه الإمام أحمد وقال: لم يصح عندي حديثه هذا.

وقال مسلم في ( ( كتاب التفصيل) ) : هذا الحديث ليس بثابت، وأبو صالح باذام قد اتقى الناس حديثه، ولا يثبت له سماع من ابن عباس.

وروي عن زيد بن ثابت، أنه نهى أن يبنى عند قبر أبيه مسجد.

خرجه حرب الكرماني.

وقال أبو بكر الأثرم في كتاب ( ( الناسخ والمنسوخ) ) : إنما كرهت الصلاة في المقبرة للتشبه بأهل الكتاب؛ لأنهم يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد.

ووجدنا في كتاب مصنف على مذهب سفيان الثوري: وإذا صلى الرجل وبين يديه ميت تنحى عنه.
إنما كره الصلاة إلى القبور من اجل الميت، فإن صلى إليها فلا باس.

وفيه - أيضا -: قال سفيان: ويكره أن يصلي الرجل إلى القبور أو ما بين
القبور.
ثم قال: ومن صلى إلى القبور فلا إعادة عليه.

وفيه: قال: ولا تعجبني الصلاة على الجنازة في المقبرة.

وهذا قول الشافعي وإسحاق ورواية عن أحمد؛ لعموم النهي عن الصلاة في المقبرة.
واستدل من رخص في صلاة الجنازة في المقبرة: بان الصلاة على القبر جائزة بالسنة الصحيحة، فعلم أن الصلاة على الميت في القبور غير منهي عنها.

خرج البخاري في هذا الباب حديثين:
الحديث الأول:
قال:
[ قــ :419 ... غــ :427 ]
- ثنا محمد بن المثنى: ثنا يحيى، عن هشام: اخبرني أبي، عن عائشة، أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتا ذلك للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: ( ( إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، وأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة) ) .

هذا الحديث يدل على تحريم بناء المساجد على قبور الصالحين، وتصوير صورهم فيها كما يفعله النصارى، ولا ريب أن كل واحد منهما محرم على انفراد، فتصوير صور الآدميين محرم، وبناء القبور على المساجد بانفراده محرم كما دلت عليه النصوص أخر يأتي ذكر بعضها.

وقد خرج البخاري في ( ( تفسير سورة نوح) ) من ( ( كتابه) ) هذا من حديث ابن جريج، فقال: عطاء، عن ابن عباس: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب تعبد، أما ود كانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع كانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجرف عند سبإ وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع -: أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت.

وقد ذكر الإسماعيلي: أن عطاء هذا هو الخرساني، والخرساني لم يسمع من ابن عباس.
والله أعلم.

فإن اجتمع بناء المسجد على القبور ونحوها من آثار الصالحين مع تصوير صورهم فلا شك في تحريمه، سواء كانت صورا مجسدة كالأصنام أو على حائط ونحوه، كما يفعله النصارى في كنائسهم، والتصاوير التي في الكنيسة التي ذكرتها أم حبيبة وأم سلمة أنهما رأتاها بالحبشة كانت على الحيطان ونحوها، ولم يكن لها ظل، وكانت أم سلمة وأم حبيبة قد هاجرتا إلى الحبشة.

فتصوير الصور على مثل صور الأنبياء والصالحين؛ للتبرك بها والاستشفاع بها محرم في دين الإسلام، وهو من جنس عبادة الأوثان، وهو الذي أخبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أهله شرار الخلق عند الله يوم القيامة.

وتصوير الصور للتآنس برؤيتها أو للتنزه بذلك والتلهي محرم، وهو من الكبائر وفاعله من اشد الناس عذابا يوم القيامة، فإنه ظالم ممثل بأفعال الله التي لا يقدر على فعلها غيره، والله تعالى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله سبحانه وتعالى.





[ قــ :40 ... غــ :48 ]
- حدثنا مسدد: ثنا عبد الوارث، عن أبي التياح، عن أنس، قال: قدم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة، فنزل أعلى المدينة في حي يقال لهم: بنو عمرو بن عوف، فأقام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربع عشرة ليلة، ثم أرسل إلى بني النجار فجاءوا متقلدين السيوف، فكأني أنظر إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على راحلته، وأبو بكر ردفه، وملأ بني النجار حوله، حتى ألقى بفناء أبي أيوب، وكان يحب أن يصلي حيث أدركته الصلاة، ويصلي في مرابض الغنم، وإنه أمر ببناء المسجد، فأرسل إلى ملإ بني النجار، فقال: ( ( يا بني النجار، ثامنوني بحائطكم هذا) ) .
قالوا: لا والله، لا نطلب ثمنه إلا إلى الله - عز وجل -.
قال أنس: فكان فيه ما أقول لكم: قبور المشركين، وفيه خرب، وفيه نخل، فأمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقبور المشركين فنبشت، ثم بالخرب فسويت، ثم بنخل فقطع، فصفوا النخل قبلة المسجد، وجعلوا عضادتيه بالحجارة، وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون، والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معهم وهو يقول:
اللهم لا خير إلا خير الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجره

أعلى المدينة: هو العوالي والعالية، وهو قباء وما حوله، وكانت قباء مسكن بني عمرو بن عوف.

وقيل: إن كل ما كان من جهة نجد من المدينة، من قراها وعمائرها إلى تهامة يسمى العالية، وما كان دون ذلك يسمى السافلة.

وبنو النجار كانوا أخوال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد ذكرنا سبب ذلك في ( ( كتاب: الإيمان) ) في ( ( باب: الصلاة من الإيمان) ) .

وكان مقصود النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ينتقل من العوالي إلى وسط المدينة، وان يتخذ بها مسكنا يسكنه.

وفي إردافه لأبي بكر في ذلك اليوم دليل على شرف أبي بكر واختصاصه به دون سائر أصحابه.

وقوله: ( ( وملأ بني النجار حوله) ) - يريد: رجالهم وشجعانهم وأشرافهم.

وقوله: ( ( حتى ألقى بفناء أبي أيوب) ) - أي: بفناء داره، و ( ( ألقى) ) بالقاف، ومعناه: أنه نزل به، فإن السائر إذا نزل بمكان ألقى فيه رحله وما معه.
وقد ذكر شرحبيل بن سعد وأهل السير: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان كلما مر بدار من دور الأنصار كبني سالم وبني حارث بن الخزرج وبني عدي أخذوا بخطام راحلته، وعرضوا عليه النزول بحيهم، وهو يقول: ( ( خلوا سبيلها؛ فإنها مأمورة) ) ، حتى بركت بفناء دار أبي أيوب، عند مسجده الذي بناه.

وقول أنس: ( ( وكان يحب أن يصلي حيث أدركته الصلاة ويصلي في مرابض الغنم) ) ، موافق لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره) ) .
ولقوله لما سئل: أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: ( ( المسجد الحرام) ) .
قيل له: ثم أي؟ قال: ( ( ثم مسجد بيت المقدس) ) .
قيل: كم بينهما؟ قال: ( ( أربعون سنة) ) .
ثم قال: ( ( الأرض لك مسجد، فأينما أدركتك الصلاة فصل؛ فإنه لك مسجد) ) .

وقوله: فأرسل إلى بني النجار، فقال: ( ( ثامنوني بحائطكم) ) - يعني: بيعوني إياه بثمنه.

قال الخطابي: وفيه أن صاحب السلعة أحق بالسوم.

فإنه طلب منهم أن يذكروا له الثمن، ولم يقطع ثمنا من عنده.

والحائط: ما فيه شجر وعليه بنيان.

وقوله: ( ( قالوا: والله، لا نطلب ثمنه إلا إلى الله) ) يدل على أنهم لم يأخذوا له ثمنا، وقد ذكر الزهري وغيره خلاف ذلك.

قال ابن سعد: أبنا الواقدي: حدثني معمر، عن الزهري، قال: بركت ناقة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند موضع مسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو يومئذ يصلي فيه رجال من المسلمين، وكان مربدا لسهل وسهيل: غلامين يتيمين من الأنصار، وكانا في حجر أبي أمامة أسعد بن زرارة، فدعا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالغلامين، فساومهما بالمربد؛ ليتخذه مسجدا.
فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله.
فأبى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى ابتاعه منهما.

قال الواقدي: وقال غير معمر، عن الزهري: فابتاعه بعشرة دنانير.
وقال معمر، عن الزهري: وأمر أبا بكر أن يعطيهما ذلك.

وهذا إن صح يدل على أن الغلامين كانا قد بلغا الحلم.

وحديث أنس اصح من رواية يرويها الواقدي عن معمر وغيره، عن الزهري مرسلة، فإن مراسيل الزهري لو صحت عنه من اضعف المراسيل، فكيف إذا تفرد بها الواقدي؟ وقد روي عن الحسن، أنهما وهباه للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقبله:
قال المفضل الجندي في ( ( فضائل المدينة) ) له: ثنا محمد بن يحيى: ثنا سفيان، عن أبي موسى، عن الحسن، قال: كان مسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مربدا لغلامين من الأنصار، يقال لهما: سهل وسهيل، فلما رآه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعجبه، فكلم فيه عمهما - وكانا في حجره - أن يبتاعه منهما، فأخبرهما عمهما أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أراده، فقالا: نحن نعطيه إياه.
فأعطياه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبناه.

قال الحسن: فأدركت فيه أصول النخل غلابا - يعني: غلاظا -، وكان
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب يوم الجمعة إلى جذع منها، ويسند إليه ظهره، ويصلي إليه.

ثم قال الواقدي - في روايته عن معمر، عن الزهري -: كان - يعني: ذلك المربد - جدارا مجدرا، ليس عليه سقف، وقبلته إلى بيت المقدس، كان أسعد بن زرارة بناه، فكان يصلي بأصحابه فيه، ويجمع فيه بهم الجمعة قبل مقدم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالنخل الذي في الحديقة، وبالغرقد الذي فيه أن يقطع، وأمر باللبن فضرب، وكان في المربد قبور جاهلية، فأمر بها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنبشت، وأمر بالعظام أن تغيب، وكان في المربد ماء مستنجل فسيروه حتى ذهب، وأسسوا المسجد، فجعلوا طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع، وفي هذين الجانبين مثل ذلك، فهو مربع - ويقال: كان اقل من المائة -، وجعلوا الأساس قريبا من ثلاث أذرع على الأرض بالحجارة، ثم بنوه باللبن، وبناه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، وجعل ينقل معهم الحجارة بنفسه، وهو يقول:
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجره

وجعل يقول:
هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر - ربنا -، وأطهر

وجعل قبلته إلى بيت المقدس، وجعل له ثلاثة أبواب: بابا في مؤخره، وبابا يقال له: باب الرحمة، وهو باب الذي يدعى باب عاتكة، والباب الثالث الذي يدخل منه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو الباب الذي يلي آل عثمان، وجعل طول الجدار بسطة وعمدة الجذوع، وسقفه جريدا، فقيل له: ألا نسقفه؟ فقال: ( ( عريش كعريش موسى، خشيبات وثمام، الشأن أعجل من ذلك) ) .

وبنى بيوتا إلى جنبه باللبن، وسقفها بجذوع النخل والجريد، فلما فرغ من البناء بنى بعائشة في البيت الذي بابه شارع إلى المسجد، وجعل سودة بنت زمعة في البيت الآخر الذي يليه إلى الباب الذي يلي آل عثمان.
انتهى.

وذكر ابن سعد أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام في منزل أبي أيوب سبعة أشهر.

وهذا يدل على أن بعض حجره تم بناؤه بعد ذلك، وانتقل إليها.

وروى ابن سعد - أيضا - عن الواقدي: ثنا عبد الرحمن بن أبي الرجال، قال: مات أسعد بن زرارة في شوال، على رأس تسعة أشهر من الهجرة، ومسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يؤمئذ يبنى.

وهذا يدل على أن بناء المسجد لم يتم إلا بعد تسعة أشهر من الهجرة.

وأما قول أنس: ( ( فكان فيه ما أقول لكم: قبور المشركين، وفيه خرب، وفيه نخل) ) .

لفظه: ( ( خرب) ) رويت بالخاء المعجمة والباء الموحدة.
ورويت: ( ( حرث) ) بالحاء والثاء المثلثة.

قال الإسماعيلي: من قال: ( ( حرث) ) .
فهو محتمل؛ لأن ما حرث ولم يزرع أو زرع فرفع زرعه، كانت الأخاديد والشقوق باقية في الأرض.

يشير إلى أن ذلك يناسب قوله: ( ( فأمر بالحرث فسويت) ) .

قال: ومن قال: ( ( خرب) ) فهو صحيح؛ فهو جمع خربة أو خربة – بضم الخاء – وهو العيب، كالجحر والشق ونحوه.

قال: وأما ( ( الخرب) ) فهو كقولك: مكان خرب - يعني: أنه يكون وصفا لمذكر.

قال: والحديث خارج على تأنيث هذا الحرف، فكأنه بالجمع أشبه.

وقال الخطابي: روي ( ( خرب) ) - يعني: بكسر الخاء وبفتح الراء - قال الليث: هي لغة تميم خرب، والواحد خربة.

قال: وسائر الناس يقولون: ( ( خرب) ) - يعني: بفتح الخاء وكسر الراء -، جمع خربة، كما قيل: كلم جمع كلمة.
ولعل الصواب ( ( الخرب) ) مضمومة الخاء جمع خربة وهي الخروق التي في الأرض، إلا أنهم يقولونها في كل ثقبة مستديرة.

قال: ولعل الرواية: ( ( الجرف) ) جمع الجرفة، وهي جمع الجرف، كما قيل: خرج وخرجه، وترس وترسه.

قال: وأبين منها - إن ساعدت الرواية -: ( ( حدب) ) جمع حدبة، لقوله: ( ( فسويت) ) ، وإنما يسوى المكان المحدودب، أو ما فيه خروق، فأما الخرب فتبنى وتعمر.
انتهى ما ذكره.

وفيه تكلف شديد، وتلاعب بهذه اللفظة بحسب ما يدخلها من الاحتمالات المستبعدة.
والرواية التي رواها الحفاظ: ( ( خرب) ) ، فإن كان مفردا، فإنما أنث
تسويته؛ لأن التأنيث يعود إلى أماكنه، والظاهر أنها كانت متعددة، وإن كان
( ( خرب) ) ؛ - بالجمع - فتأنيثها واضح.

ومعنى تسوية الخرب: أن البناء الخراب المستهدم يصير في موضعه أماكن مرتفعة عن الأرض فتحتاج إلى أن تحفر وتسوى بالأرض، وهذا أمر واضح ظاهر، لا يحتاج إلى تكلف ولا تعسف.

وأما ( ( النخل) ) فقد اخبر أنس أنه قطع، وصف قبلة للمسجد، وأما ( ( قبور المشركين) ) فنبشت، وذكر أنهم بدءوا بنبش القبور، ثم بتسوية الخرب، ثم بقطع النخل.

والمقصود من تخريج الحديث في هذا الباب: أن موضع المسجد كان فيه قبور للمشركين، فنبشت قبورهم، وأخرجت عظامهم منها، وهذا يدل على أن المقبرة إذا نبشت وأخرج ما فيها من عظام الموتى لم تبق مقبرة، وجازت الصلاة فيها.

ويدل على كراهة الصلاة في المقبرة ولو كانت قبور المشركين؛ لما فيه من سد الذريعة إلى اتخاذ القبور مساجد، فإنه إذا تطاول العهد، ولم تعرف الحال، خشي من ذلك الفتنة.

وقد يقال مع ذلك: إن في نبش عظام المشركين للصلاة في أماكنها تباعدا في الصلاة عن مواضع العذاب والغضب، وهي مما يكره الصلاة فيها، كما سيأتي ذكره - إن شاء الله تعالى.

وفي الحديث: دليل على طهارة الأرض بالاستحالة؛ فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر عند نبش الأرض بإزالة تراب القبور ولا تطهيرها، ولو فعل ذلك لما أهمل نقله؛ للحاجة إليه.

ويدل عليه - أيضا -: أن الصحابة كانوا يخوضون الطين في الطرقات ولا يغسلون أرجلهم - كما تقدم عنهم - والنجاسات مشاهدة في الطرقات، فلو لم تطهر بالاستحالة لما سومح في ذلك.

وهذا قول طائفة من العلماء من السلف، كأبي قلابة وغيره، ورجحه بعض أصحابنا، وهو رواية عن أبي حنيفة، والمشهور عنه: أن الأرض النجسة إذا جفت فإنه يصلى عليها، ولا يتيمم بها.
ومذهب مالك والشافعي واحمد وغيرهم: أنها نجسة بكل حال.

وفي الحديث: دليل على أن قبور المشركين لا حرمة لها، وأنه يجوز نبش عظامهم، ونقلهم من الأرض للانتفاع بالأرض إذا احتيج إلى ذلك.

واختلفوا في نبش قبورهم لطلب ما يدفن معهم من مال، فرخص فيه كثير من العلماء.
حكاه ابن عبد البر عن أبي حنيفة والشافعي.
قال وكرهه مالك ولم يحرمه، وكان الناس يفعلون ذلك في أول الإسلام كثيرا.

وقد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أمر بقبر أبي رغال، فأخبرهم أن معه غصنا من
ذهب، فنبشوه واستخرجوه منه.

ومن العلماء من كره ذلك، منهم الأوزاعي، وعلل بأنه يكره الدخول إلى مساكنهم؛ خشية نزول العذاب، فكيف بقبورهم؟
وكره بعض السلف نبش القبور العادية المجهولة؛ خشية أن يصادف قبر نبي أو صالح، وخصوصا بأرض الشام كالأردن.

ونص أحمد على أنه إذا غلب المسلمون على ارض الحرب فلا تنبش قبورهم.

وهذا محمول على ما إذا كان النبش عبثا لغير مصلحة، أو أن يخشى منه أن يفعل الكفار مثل ذلك بالمسلمين إذا غلبوا على أرضهم.

وفي الحديث: دليل على أن بيع الأرض التي في بعضها قبور صحيح، فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طلب شراء هذا المربد.

وهذه المسألة على قسمين:
أحدهما: أن يكون المقبور في الأرض يجوز نبشه ونقله، كأهل الحرب، ومن دفن في مكان مغصوب، فهذا لا شك في صحة البيع للأرض كلها، وينقل المدفون فيها، كما أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنقل عظام المشركين من المربد.
والثاني: أن يكون المقبور محترما لا يجوز نبشه، فلا يصح بيع موضع القبور خاصة.

وهل يصح في الباقي؟ يخرج على الخلاف المشهور في تفريق الصفقة.

ولو اشترى أرضا، فوجد في بعضها عظام موتى، ولم يعلم: هل هي مقبرة أم لا؟ فقال ابن عقيل من أصحابنا وبعض الشافعية في زمنه: لا يصح البيع في محل الدفن؛ لأن تلك البقعة إما أن تكون مسبلة، وإما أن تكون ملكا للميت قد وصى بدفنه فيها، فيكون أحق بها، ولا ينقل إلى الورثة.

وهذا الذي قالوه هو الأغلب، وإلا فيحتمل أن يكون الدفن في أرض مغصوبة أو مغارة للدفن، إلا أن هذا قليل أو نادر، فلا يعول عليه.
والله أعلم.

والمنصوص عن أحمد: أنه إذا دفن في بيت من داره فلا بأس ببيعه، ما لم يجعل مقبرة مسبلة.

وفي الحديث: دليل على جواز قطع النخل لمصلحة في قطعه، وقد نص على جوازه أحمد: إذا كان في داره نخلة ضيقت عليه، فلا بأس أن يقطعها.

وكره جماعة قطع الشجر الذي يثمر، منهم: الحسن والأوزاعي وإسحاق، وكره أحمد قطع السدر خاصة لحديث مرسل ورد فيه، وقال: قل إنسان فعله إلا رأى ما يكره في الدنيا.

ورخص في قطعه آخرون.
والله أعلم.