فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب تخليل الشعر، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه

بَابُ
تَخْليلِ الشَّعر حَتىَ إذا ظَنَّ أنَّهُ قَدْ أرْوى بشَرتَهُ أفَاضَ عليهِ
[ قــ :268 ... غــ :272 ]
- ثنا عبدان: ثنا عبد الله - هوَ ابن المبارك -: ثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا اغتسل من الجنابة، غسل يديه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم اغتسل، ثم يخلل بيده شعره، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليهِ الماء ثلاث مرات، ثم يغسل سائر جسده.

ما ذكر في هذه الرواية، أنه توضأ، ثم اغتسل، ثم يخلل بيده شعره، إلى
آخره، وهو من باب عطف التفصيل على الإجمال؛ فإن ما ذكره من التخليل وما بعده هوَ تفصيل للاغتسال الذي ذكر مجملاً.

والحديث يدل على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ قبل أن بفيض الماء على رأسه ثلاثاً يخلل شعره بيده بالماء، حتى يظن أنه قد أروى بشرته، وهذا مما ذكر في حديث عائشة دون حديث ميمونة.

وقد خرجه البخاري في أول ( ( كتاب: الغسل) ) ، من حديث مالك، عن هشام، وفي حديثه: ( ( توضأ كما يتوضأ للصلاة، ثم يدخل أصابعه في الماء، فيخلل بها أصول الشعر، ثم يصب على رأسه ثلاث غرف بيديه) ) .

وهذا يصرح بالمعنى الذي ذكرناه.

وخرجه مسلم، من طريق أبي معاوية، عن هشام، وفي حديثه:
( ( توضأ وضوءه للصلاة، ثم يأخذ الماء، فيدخل أصابعه في أصول الشعر، حتى إذا رأى أن قد استبرأ حفن على رأسه ثلاث حفنات) ) .

وكذلك روى حماد بن زيد، عن هشام، هذا الحديث، وقال فيهِ - بعد ذكر الوضوء -: ( ( ثم يدخل يده في الإناء، فيخلل شعره، حتى إذا رأى أنه قد أصاب البشرة، أو أنقى البشرة، افرغ على رأسه ثلاثاً) ) .

خرجه أبو داود.

وخرجه الإمام أحمد، عن يحيى بن سعيد القطان، عن هشام، به بنحوه، وفي حديثه: ( ( ثم يخلل اصول شعر رأسه، حتى إذا ظن أنه قد استبرا البشرة، اغترف ثلاث غرفات، فصبهن على رأسه) ) .

وخرجه النسائي، من حديث سفيان، عن هشام، ولفظ حديثه: ( ( إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يشرب رأسه، ثم يحثي عليهِ ثلاثاً ثلاثاً) ) .

وروى أيوب وعبيد الله بن عمر هذا الحديث، عن هشام، وذكر أن تخليل شعره كانَ مرتين.

وروي عن أيوب، قالَ: مرتين أو ثلاثاً.

ورواه حماد بن سلمة، عن هشام، ولفظ حديثه: ( ( أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يتوضأ من الجنابة، ثم يدخل يده اليمنى في الماء، ثم يخلل به شق رأسه الأيمن، فيتبع بها أصول الشعر، ثم يفعل بشة رأسه الأيسر كذلك، حتى تستبرىء البشرة، ثم يصب على رأسه
ثلاثاً)
)
.

ورواه شريك، عن هشام، وذكر أن تخليل شعره كانَ بعد الإفراغ عليهِ ثلاثاً.

وشريك، سيء الحفظ، لا يقبل تفرده بما يخالف الحفاظ.

وتابعه سفيان بن وكيع، عن أبيه، عن هشام.

وسفيان هذا، ليس ممن يلتفت إلى قوله.

وكذلك رواه ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة.

وابن لهيعة، لا يقبل تفرده فيما يخالف الحفاظ.

وفي الجملة؛ فهذا ثابت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه خلل شعره بالماء، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض الماء على شعر راسه.

فكان التخليل أولاً لغسل بشرة الرأس، وصب الماء ثلاثاً بعده لغسل الشعر، هذا هوَ الذي يدل عليهِ مجموع ألفاظ هذا الحديث.

وقال القرطبي: إنما فعل ذَلِكَ ليسهل دخول الماء إلى أصول الشعر.

وقيل [ليتأسى] بذلك [حتى] لا يجد بعده من صب الماء الكثير .

قلت: قول عائشة: ( ( حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليهِ الماء ثلاث مرات) ) ، يرد هذا [كله] ، ويبين أن التخليل كانَ لغسل بشرة الرأس، وتبويب البخاري يشهد لذَلِكَ - أيضاً.

وهذه سنة عظيمة من سنن غسل الجنابة، ثابتة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لم ينتبه لها أكثر الفقهاء، مع توسعهم للقول في سنن الغسل وأدائه.

ولم أر من صرح به منهم، إلا صاحب ( ( المغني) ) من أصحابنا، وأخذه من عموم قول أحمد:
الغسل على حديث عائشة.

وكذلك ذكره صاحب ( ( المهذب) ) من الشافعية، قالَ - بعد ذكر الوضوء -:
ثم يدخل أصابعه العشر في الماء، فيغترف غرفة يخلل بها أصول شعره من رأسه ولحيته، ثم يحثي على رأسه ثلاث حثيات.

وفي هذا زيادة على ما في حديث عائشة، وهو تخليل اللحية.

ومذهب الشافعي: وجوب إيصال الماء إلى باطن اللحية، وإن كانت كثيفة، في الجنابة دون الوضوء.

وعن مالك في وجوب ذَلِكَ في الغسل روايتان.

وأما أصحابنا فيجب ذَلِكَ عندهم - في المشهور.

ولهم وجه ضعيف، أنه لا يجب.

وحكي مثله عن المزني.

وكلام أكثرهم، يدل على أن المغتسل يتوضأ، ثم يصب على رأسه الماء ثلاثاً، ويخلل أصول الشعر مع ذَلِكَ.

وقد وجد في كلام الأئمة، كسفيان وأحمد وإسحاق، ما يدل على ذَلِكَ.

واتباع السنة الصحيحة التي ليس لها معارض أولى.

وقد روى قتادة، عن عروة، عن عائشة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ إذا أراد أن يغتسل من جنابة توضأ وضوءه للصلاة، ثم صب على رأسه ثلاث مرار، يخلل باصابعه أصول الشعر.
خرجه الإمام أحمد.

وهذه الرواية تشهد لما قاله أكثر الفقهاء: إنه يصب الماء على رأسه، ثم يخلله
بأصابعه.

ولكن رواية هشام، عن أبيه، المتفق على صحتها، مقدمة على رواية قتادة.

وليس في ترك ذكر هذا في حديث ميمونة ما يوجب تركه؛ لأن ميمونة حكت غسل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قضية معينة، وعائشة حكت ما كانَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله إذا اغتسل من الجنابة، فالأخذ بروايتها متعين، والله أعلم.



[ قــ :69 ... غــ :73 ]
- وقالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إناء واحد، نغترف، منه جميعاً.