فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب وجوب صلاة الجماعة

بَابُ
وُجُوبِ صَلاَةِ الجَمَاعَةِ
وَقَالَ الحَسَنُ: إِنْ مَنَعَتْهُ أُمُّهُ عَنِ العِشَاءِ فِي جَمَاعَةٍ شَفَقَةً لَمْ يُطِعْهَا.

مقصود البخاري بهذا الباب: أن الجماعة واجبةٌ للصلاة، ومن تركها لغير عذرٍ، وصلى منفرداً فَقَدْ ترك واجباً، وهذا قَوْلِ كثير من السلف، منهم: الْحَسَن، وما حكاه البخاري عَنْهُ يدل عَلَى ذَلِكَ.

وقد روي عَن الْحَسَن التصريح بتعليل ذَلِكَ بأن الجماعة فريضةٌ، فروى إِبْرَاهِيْم الحربي فِي ( ( كِتَاب البر) ) : نا عُبَيْدِ الله بْن عُمَر - هُوَ: القواريري -: نا معتمر: نا هِشَام، قَالَ: سئل الْحَسَن عَن الرَّجُلُ تأمره أمه أن يفطر تطوعاً؟ قَالَ: يفطر، ولا قضاء عَلِيهِ.
قُلتُ: تنهاهُ أن يصلي العشاء فِي جماعة؟ قَالَ: لَيْسَ لها ذَلِكَ؛ هَذِهِ فريضة.

وروى بإسناده عَن عَطَاء فِي الرَّجُلُ تحسبه أمه فِي الليلة المطيرة المظلمة عَن الصلاة فِي جماعة، قَالَ: أطعها.

وهذا لا يخالف فِيهِ الْحَسَن؛ فإن الْحَسَن أفتى بعدم طاعة الأم فِي ترك الجماعة فِي غير حال العذر، وعطاء أفتى بطاعتها فِي ترك الجماعة فِي حال العذر المبيح لترك الجماعة، وعطاء موافق للحسن فِي القول بوجوب الجماعة.

قَالَ ابن المنذر: وممن كَانَ يرى أن حضور الجماعات فرض: عَطَاء بْن أَبِي رباح، وأحمد بْن حَنْبل، وأبو ثور.

قَالَ:.

     وَقَالَ  الشَّافِعِيّ: لا أرخص لمن قدر عَلَى صلاة الجماعة فِي ترك إتيانها، إلا من عذرٍ.

وَقَالَ ابن مَسْعُود: لَقَدْ رأيتنا وما يتخلف عَنْهَا إلا منافقٌ معلومٌ نفاقه.

وروينا عَن غير واحد من أصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنهم قالوا: من سَمِعَ النداء ثُمَّ لَمْ يجب فلا صلاة لَهُ، منهم: ابن مَسْعُود، وأبو موسى.
وقد روي عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
انتهى.

وَقَالَ إِسْحَاق بْن راهويه: صلاة الجماعة فريضة.

وَقَالَ الإمام أحمد فِي صلاة الجماعة: هِيَ فريضة.

وَقَالَ فِي رِوَايَة عَنْهُ: أخشى أن تكون فريضة، ولو ذهب النَّاس يجلسون عَنْهَا لتعطلت المساجد: يروى عَن عَلِيّ، وابن عَبَّاس، وابن مَسْعُود: من سَمِعَ النداء فَلَمْ يجب فلا صلاة لَهُ.

وَقَالَ - أيضاً -: أشد مَا فيها قَوْلِ ابن مَسْعُود: لَوْ تركتم سَنَة نبيكم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لكفرتم.

وقول ابن مَسْعُود قَدْ خرجه مُسْلِم فِي ( ( صحيحه) ) من رِوَايَة أَبِي الأحوص، عَن عَبْد الله بْن مَسْعُود، قَالَ: لقد رأيتنا وما يتخلف عَن الصلاة إلا منافق قَدْ علم
نفاقه، أو مريض، إن كَانَ المريض ليمشي بَيْن الرجلين حَتَّى يأتي الصلاة،.

     وَقَالَ : إن رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علمنا سنن الهدى، وإن من سنن الهدى الصلاة فِي المسجد الَّذِي يؤذن
فِيهِ.
وفي رِوَايَة لمسلم - أيضا - عَن ابن مَسْعُود، قَالَ: من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ عَلَى هؤلاء الصلوات حيث ينادي بهن، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم فِي بيوتكم كما يصلي هَذَا المتخلف فِي بيته لتركتم سَنَة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم.

وخرجه أبو داود بنحوه، وعنده: ( ( ولو تركتم سنة نبيكم لكفرتم) ) .

وخرج الترمذي من حَدِيْث مُجَاهِد، عَن ابن عَبَّاس، أنه سئل عَن رَجُل يصوم النهار، ويقوم الليل، ولا يشهد جمعة ولا جماعة؟ قَالَ: هُوَ فِي النار.

وروي عَن أَبِي سنان، عَن سَعِيد بْن جبير، عَن ابن عَبَّاس فِي قوله تعالى:
{ وقدكَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم: 43] قَالَ: نَزَلَتْ فِي صلاة الرَّجُلُ يسمع الأذان فلا يجيب.

وروي عَن سَعِيد بْن جبير من قوله.

وروى أبو حيان التيمي، عَن أبيه، عَن عَلِيّ، قَالَ: لا صلاة لجار المسجد إلا فِي المسجد.
قيل: يَا أمير المُؤْمِنيِن، ومن جار المسجد؟ قَالَ: من سَمِعَ الأذان.

وروى شعبة عَن عدي بْن ثابت، عَن سَعِيد بْن جبير، عَن ابن عَبَّاس، قَالَ: من سَمِعَ النداء فَلَمْ يجب فلا صلاة لَهُ إلا من عذرٍ.

وقد رفعه طائفة من أصْحَاب شعبة بهذا الإسناد، وبعضهم قَالَ: عَن شعبة، عَن حبيب بْن أَبِي ثابت، عَن سَعِيد، عَن ابن عَبَّاس مرفوعاً.

وقد خرجه بالإسناد الأول مرفوعاً ابن ماجه وابن حبان فِي ( ( صحيحه) ) والحاكم وصححه.

ولكن وقفه هُوَ الصحيح عِنْدَ الإمام أحمد وغيره.

وخرجه أبو داود مرفوعاً - أيضاً - من رِوَايَة أَبِي جناب الكلبي، عَن مغراء، عَن عدي بْن ثابت، بِهِ.

وأبو جناب، ليس بالقوي، وقد اختلف عَلِيهِ - أيضاً - فِي رفعه ووقفه.

وروي أبو بَكْر بْن عياش، عَن أَبِي حصين، عَن أَبِي بردة، عَن أَبِي موسى، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ( ( من سَمِعَ النداء فارغاً صحيحاً فَلَمْ يجب فلا صلاة لَهُ) ) .

خرجه الحَاكِم، وصححه.

وقد اختلف عَلَى أبي بَكْر بْن عياش فِي رفعه ووقفه.

ورواه قيس بْن الربيع، عَن أَبِي حصين - مرفوعاً.
ورواه مِسْعَر وغيره عَن أَبِي حصين موقوفاً.

والموقوف أصح -: قَالَه البيهقي وغيره.

وممن ذهب الى أن الجماعة للصلاة مَعَ عدم العذر واجبة: الأوزاعي والثوري والفضيل بن عياض وإسحاق وداود، وعامة فقهاء الحَدِيْث، منهم: ابن خزيمة وابن المنذر.

وأكثرهم عَلَى أَنَّهُ لَوْ ترك الجماعة لغير عذرٍ وصلى منفرداً أَنَّهُ لا يجب عَلِيهِ الإعادة، ونص عَلِيهِ الإمام أحمد.

وحكي عَن داود أَنَّهُ يجب عليهِ الإعادة، ووافقه طائفة من أصحابنا، منهم: أبو الْحَسَن التميمي، وابن عقيل وغيرهما.

وَقَالَ حرب الكرماني سئل إِسْحَاق عَن قوله: لا صلاة لجار المسجد إلا فِي المسجد؟ فَقَالَ: الصحيح أَنَّهُ لا فضل ولا أجر ولا أمن عَلِيهِ.

يعني: أَنَّهُ لا صلاة لَهُ.

وقد ذكرنا حَدِيْث ابن أم مكتوم فِي استئذانه النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقول النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( لا أجدُ لَكَ رخصةً) ) فيما سبق.

وهذا مِمَّا يستدل بِهِ عَلَى وجوب حضور الجماعة.

وقد روي عَن حذيفة وزيد بْن ثابت مَا يدل عَلَى الرخصة فِي الصلاة منفرداً مَعَ القدرة عَلَى الجماعة.

وحكي عَن أَبِي حنيفة ومالك ان حضور الجماعة سَنَة مؤكدة، لا يأثم بتركها.

ولأصحاب الشَّافِعِيّ وجهان، أحدهما كذلك، ومنهم من حكى عَنْهُ رِوَايَة كقول مَالِك وأبي حنيفة، وفي صحتها عَنْهُ نظر.
والله أعلم.

ولهذا أنكر بعض محققي أصحابنا أن يكون عَن أحمد رِوَايَة بأن حضور المساجد للجماعة سَنَة، وأنه يجوز لكل أحد أن يتخلف عَن المسجد ويصلي فِي بيته؛ لما فِي ذَلِكَ من تعطيل المساجد عَن الجماعات، وهي من أعظم شعائر الإسلام.

ويلزم من هَذَا؛ أن لا يصح عَن أحمد رِوَايَة بأن الجماعة للصلاة من أصلها سَنَة غير واجبة بطريق الأولى، فإنه يلزم من القول بوجوب حضور المسجد لإقامة الجماعة القول بوجوب أصل الجماعة، من غير عكسٍ.
والله أعلم.

وحكى ابن عَبْد البر الإجماع عَلَى أنه لا يجوز أن يجتمع عَلَى تعطيل المساجد كلها من الجماعات، وبذلك رجح قَوْلِ من قَالَ: إن الجماعة فرض كفايةٍ.

قَالَ البخاري:
[ قــ :626 ... غــ :644 ]
- حَدَّثَنَا عَبْد الله بْن يوسف: أنا مَالِك، عَن أَبِي الزناد، عَن الأعرج، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، أن رَسُول الله - رضي الله عنه - قَالَ: ( ( والذي نفسي بيده، لَقَدْ هممت بحطب
[يجمع] ليحتطب، ثُمَّ آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثُمَّ آمر رجلاً فيؤم النَّاس، ثُمَّ أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم، فوالذي نفسي بيده، لَوْ يعلم أحدهم أَنَّهُ يجد عرقاً سميناً أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء)
)
.

قَالَ ابن عَبْد البر: قوله: ( ( لَقَدْ هممت أن آمر بخطب ليحطب) ) أي: يجمع.

والعرق، المراد بِهِ: بضعة اللحم السمين عَلَى عظمة.

والمرماتان، قيل: هما السهمان.
وقيل: هما حديدتان من حدائد كانوا يلعبون بهما، وهي ملس كالأسنة، كانوا يثبتونها فِي الأكوام والأغراض، ويقال لها - فيها زعم بعضهم -: المداحي.

قَالَ أبو عُبَيْدِ: يقال: إن المرماتين ظلفا الشاة.
قَالَ: وهذا حرف لا أدري مَا وجهه، إلا أن هَذَا تفسيره.

ويروى المرماتين - بكسر الميم وفتحها -: ذكره الأخفش.

وذكر العرق والمرماتين عَلَى وجه ضرب المثال بالأشياء التافهة الحقيرة من الدنيا، وَهُوَ توبيخ لمن رغب عَن فضل شهود الجماعة للصلاة، مَعَ أَنَّهُ لَوْ طمع فِي إدراك يسير من عرض الدنيا لبادر إليه، ولو نودي إلى ذَلِكَ لأسرع الإجابة إليه، وَهُوَ يسمع منادي الله فلا يجيبه.

قَالَ الخطابي: وقوله: ( ( حسنتين) ) لا أدري عَلَى أي شيء يتأول معنى الْحَسَن فيهما، إلا عَلَى تأويل من فسر المرماة بظلف الشاة.

ثُمَّ ذكر عَن المبرد، أَنَّهُ قَالَ: الْحَسَن والحسن العظيم الَّذِي فِي المرفق مِمَّا يلي البطن.
والقبح والقبيح العظم الَّذِي فِي المرفق مِمَّا يلي المرفق.

قَالَ: فلعله شبه أحد العظمين بالآخر - أعني المرماة - والعظم الَّذِي فِي المرفق مِمَّا يلي البطن.

قَالَ: وَهُوَ شيء لا أحق ولا اثق بِهِ.
انتهى.

قُلتُ: وقد قَالَ بعضهم: ان الرواية ( ( خشبتين) ) بالخاء والشين المعجمتين والباء الموحدة، وَهُوَ غلط وتصحيف.

والذي يظهر - والله أعلم - ان النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخرج هَذَا الكلام مخرج تعظيم شهور العشاء فِي جماعة، والتنويه بفضله وشرفه ونفاسته، والنفوس مجبولة عَلَى محبة الأشياء الحسنة الشريفة النفيسة، والميل إليها، فوبخ من لَوْ طمع فِي وجود قطعة من لحم سمينة أو مرماتين حسنتين، وهما من ادنى الأشياء الدنيوية لبادر الى الخروج إليها، وشهد العشاء لذلك، وَهُوَ يتخلف عَن شهود العشاء فِي الجماعة مَعَ فضل الجماعة عِنْدَ الله، وعظم فضل الجماعة مَا يدخره لمن شهدها عنده من جميل الجزاء وجزيل العطاء، فيكون مَا يعجل لَهُ وإن كَانَ يسيراً من أمور الدنيا المستحسنة عنده مِمَّا يأكله أو يلهو بِهِ أهم عنده من ثواب الله الموعود بِهِ.

ويشبه هَذَا: قَوْلِ الله تعالى: { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة:11] ، فإنه توبيخ لمن ترك الجمعة أو اشتغل عَنْهَا بالتجارة أو باللهو.

وهذا الحَدِيْث: ظاهر فِي وجوب شهود الجماعة فِي المساجد، وإجابة المنادي بالصلاة؛ فإن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبر أَنَّهُ هم بتحريق بيوت المتخلفين عَن الجماعة، ومثل هذه العقوبة الشديدة لا تكون إلا عَلَى ترك واجبٍ.

وقد اعترض المخالفون فِي وجوب الجماعة عَلَى هَذَا الاستدلال، وأجابوا عَنْهُ بوجوهٍ.

مِنْهَا: حمل هَذَا الوعيد عَلَى الجمعة خاصة.

واستدلوا عَلِيهِ بما فِي ( ( صحيح مُسْلِم) ) عَن ابن مَسْعُود، ان النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لقوم يتخلفون عَن الجمعة: ( ( لَقَدْ هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس، ثُمَّ أحرق عَلَى رجال يتخلفون عَن الجمعة) ) .

ومنها: أَنَّهُ أراد تحريق بيوت المنافقين لنفاقهم؛ ولهذا قَالَ ابن مَسْعُود: ولقد رأيتنا وما يتخلف عَنْهَا إلا منافق معلوم نفاقه، وقد سبق ذكره.

والمنافق إذا تخلف عَن الصلاة مَعَ المُسْلِمِين لا يصلي فِي بيته بالكلية، كما أخبر الله عنهم، أنهم { يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النِّسَاء: 142] .

وهذا التأويل عَن الشَّافِعِيّ وغيره.

ومنها: أَنَّهُ لَمْ يفعل التحريق، وإنما توعد بِهِ.

وقد ذهب قوم من العلماء الى جواز أن يهدد الحَاكِم رعيته بما لا يفعله بهم، واستدل بعضهم لذلك بما أخبر بِهِ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَن سُلَيْمَان، أَنَّهُ قَالَ حِينَ اختصمت إليه المراتان في الولد: ( ( ايتوني بالسكين حَتَّى أشقه) ) ، ولم يرد فعل ذَلِكَ، إنما قصد بِهِ التوصل الى معرفة أمه منهما بظهور شفقتها ورقتها عَلَى ولدها.

والجواب: أَنَّهُ لا يصح حمل الحَدِيْث عَلَى شيء من ذَلِكَ.
أما حمله عَلَى الجمعة وحدها فغير صحيح.

وفي ذكر النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهود العشاء فِي تمام الحَدِيْث مَا يدل عَلَى ان صلاة العشاء الموبخ عَلَى ترك شهودها هِيَ المراد.

وقد روي ذَلِكَ عَن سَعِيد بْن المُسَيِّب، وأنها داخلة فِي عموم الصلاة؛ فإن الاسم المفرد المحلي بالألف واللام يعم، كما فِي قوله تعالى: { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] ، وهذا قَوْلِ جماعة من العلماء.

وقد جَاءَ التصريح بالتحريق عَلَى من تخلف عَن صلاة العشاء.

فروى الحميدي عَن سُفْيَان: ثنا أبو الزناد، عَن الأعرج، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ( ( لَقَدْ هممت أن أقيم الصلاة صلاة العشاء، ثُمَّ آمر فتياني فيخالفوا الى بيوت أقوام يتخلفون عَن صلاة العشاء، فيحرقون عليهم بحزم الحطب) ) - وذكر بقية الحَدِيْث.

وروى ابن أَبِي ذئب، عَن عجلان مَوْلَى المشمعل، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ( ( لينتهين رجال ممن حول المسجد، لا يشهدون العشاء الآخرة فِي الجمع، أو لأحرقن حول بيوتهم بحزم الحطب) ) .

خرجه الإمام أحمد.

وخرج - أيضاً - من حَدِيْث أَبِي معشر، عَن سَعِيد المقبري، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ( ( لولا مَا فِي البيوت من النِّسَاء والذرية أقمت صلاة العشاء، وأمرت فتياني يحرقون مَا فِي البيوت بالنار) ) .
وروى عاصم، عَن أَبِي صالح، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: أخر رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة العشاء حَتَّى تهور الليل وذهب ثلثه أو قريباً مِنْهُ، ثُمَّ خرج الى المسجد، فإذا النَّاس عزون، وإذا هم قليل، فغضب غضباً مَا أعلم اني رأيته غضب غضباً قط أشد مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: ( ( لَوْ ان رجلاً نادى النَّاس الى عرق أو مرماتين أتوه لذلك [ولم يتخلفوا] ، وهم يتخلفون عَن هذه الصلاة، لَقَدْ هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس، ثُمَّ اتتبع هذه الدور الَّتِيْ تخلف أهلوها عَن هذه الصلاة، فأحرقها عليهم بالنيران) ) .

وورد التصريح بأن العقوبة عَلَى ترك الجماعة دون الجمعة.

خرجه الطبراني فِي ( ( أوسطه) ) : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيْم - هُوَ ابن هاشم البغوي -: ثنا حوثرة بْن أشرس: ثنا حماد بْن سَلَمَة، عَن ثابت، عَن أنس، ان النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ ( ( لَوْ ان رجلاً دعا النَّاس الى عرق أو مرماتين لأجابوه، وهم يدعون الى هذه الصلاة فِي جماعة فلا يأتونها، لَقَدْ هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس فِي جماعة، ثُمَّ أنصرف إلى قوم سمعوا النداء، فَلَمْ يجيبوا فأضرمها عليهم ناراً؛ فإنه لا يتخلف عَنْهَا إلا منافق) ) .

حوثرة، ضَعِيف -: قَالَ ابن نقطة فِي ( ( تكملة الإكمال) ) .

وأما ذكر الجمعة فِي حَدِيْث ابن مَسْعُود، فلا يدل عَلَى اختصاها بذاك؛ فإنه كما هم أن يحرق عَلَى المتخلف عَن الجمعة فَقَدْ هم أن يحرق عَلَى المتخلف عَن العشاء.
وقد قيل إنه عبر بالجمعة عَن الجماعة للاجتماع لها.

قَالَ البيهقي: هَذَا هُوَ الَّذِي عَلِيهِ سائر الرواة.

واستدل بما خرجه من ( ( سنن أَبِي داود) ) عَن يزيد بْن يزيد، عَن يزيد بْن الأصم، قَالَ: [سَمِعْت أبا هُرَيْرَةَ يَقُول] : سَمِعْت رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُول: ( ( لَقَدْ هممت أن آمر فتيتي فيجمعوا حزماً من حطبٍ، ثُمَّ آتي قوماً يصلون فِي بيوتهم، ليس بهم علة فأحرقها عليهم) ) .

قيل ليزيد بْن الأصم: الجمعة عنى أو غيرها؟ فَقَالَ: صمتا أذناي إن لَمْ أكن سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ يأثره عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مَا ذكر جمعة ولا غيرها.

وخرجه - أيضاً - من طريق معمر، عَن جَعْفَر بْن برقان، عَن يزيد بْن الأصم مختصراً، وفي حديثه: ( ( لا يشهدون الجمعة) ) .

وهذه الرواية، أو أَنَّهُ اراد بالجمعة الجماعة، كما قَالَ البيهقي؛ فإن مسلماً خرجه من طريق وكيع، عَن جَعْفَر بْن برقان،.

     وَقَالَ  فِي حديثه: ( ( لا يشهدو الصلاة) ) .

ورواية أَبِي داود صريحة فِي أن التحريق عقوبة عَلَى المتخلف عَن الجماعة.

وإن صلى المتخلف فِي بيته.

وأما دعوى أن التحريق كَانَ للنفاق فهو غير صحيح؛ فإن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صرح بالتعليل بالتخلف عَن الجماعة، ولكنه جعل ذَلِكَ من خصال النفاق، وكل مَا كَانَ علماً عَلَى النفاق فهو محرم.

وفي حَدِيْث أَبِي زرارة الأنصاري، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( من سَمِعَ النداء ثلاثاً فَلَمْ يجب كتب من المنافقين) ) .
وإسناده صحيح؛ لكن أبو زرارة، قَالَ أبو الْقَاسِم البغوي: لا أدري أله صحبة أم لا؟
وخرج الإمام أحمد من رِوَايَة ابن لهيعة، عَن زبان بْن فائد، عَن سَهْل بْن معاذ بْن أنس، عَن أبيه، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ( ( الجفاء كل الجفاء، والكفر والنفاق من سَمِعَ منادي الله ينادي بالصلاة ويدعو بالفلاح فلا يجيبه) ) .

ورواه رشدين بْن سعد، عَن زبان.

قَالَ الحافظ أبو موسى: رواه جماعة عَن زبان، وتابعه عَلِيهِ يزيد بْن أَبِي حبيب.

وَقَالَ النخعي: كفى علماً عَلَى النفاق أن يكون الرَّجُلُ جار المسجد، لا يرى فِيهِ.

وقد كَانَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلم نفاق خلق من المنافقين ولا يعاقبهم عَلَى نفاقهم، بل يكل سرائرهم إلى الله، ويعاملهم معاملة المُسْلِمِين فِي الظاهر، ولا يعاقبهم إلا عَلَى ذنوب تظهر منهم، فَلَمْ تكن العقوبة بالتحريق إلا عَلَى الذنب الظاهر، وَهُوَ التخلف عَن شهود الصلاة فِي المسجد، لا عَلَى النفاق الباطن.

وأما دعوى أن ذَلِكَ كَانَ تخويفاً وإرهابا مِمَّا لا يجوز فعله، فَقَدْ اختلف فِي جواز ذَلِكَ.

فروي جوازه عَن طائفة من السلف، منهم: عَبْد الحميد بْن عَبْد الرحمن عامل عُمَر بْن عَبْد العزيز عَلَى الكوفة، وميمون بْن مهران، وروي - أيضاً - عن عُمَر بْن الخَطَّاب من وجه منقطع ضَعِيف، وعن عَلِيّ بْن أَبِي طالب.

وأنكر ذَلِكَ عُمَر بْن عَبْد العزيز وتغيظ عَلَى عَبْد الحميد لما فعله،.

     وَقَالَ : إن خصلتين خيرهما الكذب لخصلتا سوءٍ.

وقد ذكر هذه الآثار عُمَر بْن شبة البصري فِي ( ( كِتَاب أدب السلطان) ) .

وبكل حال؛ فليس مَا ذكره النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من التحريق من هَذَا فِي شيء؛ لأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبر بأنه هم، وأنما يهم بما يجوز لَهُ فعله، والتخويف يكون عِنْدَ من أجازه بما لا يجوز فعله ولا الهم بفعله، فتبين أَنَّهُ ليس من التخويف فِي شيء، وإنما امتنع من التحريق لما فِي البيوت من النِّسَاء والذرية وهم الأطفال، كما فِي الرواية الَّتِيْ خرجها الإمام أحمد، وهم لا يلزمون شهود الجماعة؛ فإنها لا تجب عَلَى امرأة ولا طفل، والعقوبة إذا خشي أن تتعدى إلى من لا ذنب لَهُ امتنعت، كما يؤخر الحد عَن الحامل إذا وجب عَلَيْهَا حَتَّى تضع حملها.

فإن زعم زاعم أن التحريق منسوخ؛ لأنه من العقوبات المالية، وقد نسخت، وربما عضل ذَلِكَ بنهي النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَن التحريق بالنار.

قيل لَهُ: دعوى نسخ العقوبات المالية بإتلاف الأموال لا تصح، والشريعة طافحة بجواز ذَلِكَ، كأمره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتحريق الثوب المعصفر بالنار، وأمره بتحريق متاع الغال، وأمره بكسر القدور الَّتِيْ طبخ فيها لحوم الحمر الأهلية، وحرق عُمَر بيت خمار.

ونص عَلَى جواز تحريق بيت الخمار أحمد وإسحاق -: نقله عنهما ابن منصور فِي ( ( مسائله) ) ، وَهُوَ قَوْلِ يَحْيَى بْن يَحْيَى الأندلسي، وذكر أن بعض أصحابه نقله عَن مَالِك، واختاره ابن بطة من أصحابنا.

وروي عَن عَلِيّ - أيضاً - وروي عَنْهُ أَنَّهُ أنهب ماله.

وعن عُمَر، قَالَ فِي الَّذِي يبيع الخمر: كسورا كل آنية لَهُ، وسيروا كل ماشية
لَهُ.

خرجه وكيع فِي ( ( كتابه) ) .

وأما نهيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَن التحريق بالنار، فإنما أراد بِهِ تحريق النفوس وذوات الأرواح.

فإن قيل: فتحريق بيت العاصي يؤدي إلى تحريق نفسه، وَهُوَ ممنوع.

قيل: إنما يقصد بالتحريق دارهُ ومتاعهُ، فإن أتى عَلَى نفسه لَمْ يكن بالقصد، بل تبعاً، كما يجوز تبييتُ المشركين وقتلهم ليلاً، وقد أتى القتل عَلَى ذراريهم ونسائهم.

وقد سئل النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَن ذَلِكَ، فَقَالَ: ( ( هم منهم) ) .

وهذا مِمَّا يحسن الاستدلال بِهِ عَلَى قتل تارك الصلاة؛ فإنه إذا جازت عقوبة تارك الجماعة فِي ماله وإن تعدت إلى نفسه بالهلاك، فقتل من ترك الصلاة بالكلية أولى بالجواز، فلا جرم كَانَ قتله واجباً عِنْدَ جمهور العلماء.

وفي الحَدِيْث: دليل عَلَى أَنَّهُ إنما يعاقب تارك الصلاة أو بعض واجباتها فِي حال إخلاله بِهَا، لا بعد ذَلِكَ؛ فإن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما أراد عقوبتهم فِي حال التخلف، وقد كَانَ يمكنه أن يؤخر العقوبة حَتَّى يصلي وتنقضي صلاته.

وهذا يعضد قَوْلِ من قَالَ من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم: إن تارك الصلاة لا يقتل حَتَّى يدعى إلى الصلاة، ويصر عَلَى تركها حَتَّى يضيق وقت الأخرى، ليكون قتله عَلَى الترك المتلبس بِهِ فِي الحال.

وفي الحَدِيْث - أيضاً - أن الإمام لَهُ أن يؤخر الصلاة عَن أول الوقت لمصلحة دينية، ولكنه يستخلف من يصلي بالناس فِي أول الوقت؛ لئلا تفوتهم فضيلة أول الوقت.

وفيه - أيضاً -: أن إنكار المنكر فرض كفاية، وأنه إذا قام اكتفى بذلك، ولا يلزم جميع النَّاس الاجتماع عَلِيهِ؛ فإنه لَوْ كَانَ كذلك لأخذ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَهُ جميع النَّاس.