فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب الصلاة إلى الأسطوانة

باب
الصلاة إلى الأسطوانة
وقال عمر: المصلون أحق بالسواري من المتحدثين إليها.

ورأى ابن عمر رجلا يصلي بين أسطوانتين، فأدناه إلى سارية، فقال: صل إليها.

خرج فيه حديثين:
الحديث الأول:
[ قــ :489 ... غــ :502 ]
- ثنا المكي: ثنا يزيد بن أبي عبيد، قال: كنت آتي مع سلمة بن الأكوع، فيصلي عند الأسطوانة التي عند المصحف، فقلت: يا أبا مسلم، أراك تتحرى الصلاة عند هذه الأسطوانة؟ قال: فإني رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتحرى الصلاة عندها.

هذا - أيضا - من ثلاثيات البخاري.

والأسطوانة: السارية.

وهذه الأسطوانة الظاهر أنها من أسطوان المسجد القديم الَّذِي يسمى الروضة، وفي الروضة أسطوانتان، كل منهما يقال: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي إليها:
الأسطوانة المخلقة، وتعرف بأسطوانة المهاجرين؛ لأن أكابرهم كانوا يجلسون إليها ويصلون عندها، وتسمى: أسطوان عائشة.

ويقال: إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى إليها المكتوبة بعد تحويل القبلة بضع عشرة يوما، ثم تقدم إلى مصلاه اليوم.

وهي الأسطوانة الثالثة من المنبر، والثالثة من القبلة، والثالثة من القبر الشريف، وهي متوسطة في الروضة.

وأسطوانة التوبة، وهي التي ربط فيها أبو لبابة نفسه حتى تاب الله عليه.

وقد قيل: إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا اعتكف في رمضان طرح له فراشه، ووضع سريره وراءها.

وقد روي عن عمر مولى غفرة ومحمد بن كعب، أن أكثر نوافل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت عندها.

وهي الأسطوانة الثانية من القبر الشريف، والثالثة من القبلة، والرابعة من المنبر.

وفي الحديث: دليل على أنه لا بأس أن يلزم المصلي مكانا معينا من المسجد يصلي فيه تطوعا.

وقد ورد في رواية التصريح بأن هذه الصلاة كانت تطوعا.

خرجه ابن ماجه، ولفظ حديثه: أن سلمة كان يأتي إلى سبحة الضحى فيعمد إلى الأسطوانة دون المصحف، فيصلي قريبا منها، فأقول له: ألا تصلي هاهنا، وأشير إلى بعض نواحي المسجد، فيقول: إني رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتحرى هذا المقام.

وقوله: ( ( قريبا منها) ) قد يحمل على أنه كان ينحرف عنها في صلاته، ولا يستقبلها استقبالا.

وخرج البزار، من رواية يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن عبد الرحمن ابن صفوان، قال: لما خرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من البيت سألت من كان معه: أين صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قالوا: صلى ركعتين عند السارية الوسطى، عن يمينها.

ويزيد بن أبي زياد ليس بالحافظ.

وروى عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر، سأل بلالا: أين صلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعني: في الكعبة –؟ قَالَ: فأشار لَهُ بلال إلى السارية الثانية عِنْدَ
الباب.
قال: صلى عن يمينها، تقدم عنها شيئا.

وعبد العزيز - أيضا - ليس بالحافظ.

وقد صرح أصحابنا وأصحاب الشافعي وغيرهم بأنه يستحب لمن صلى إلى سترة منصوبة أن ينحرف عنها ولا يستقبلها.

وصرح بذلك من أصحابنا: أبو بكر عبد العزيز وابن بطة والقاضي أبو يعلى وأصحابه.

وأخذوه من نص الإمام أحمد على أن الإمام يقوم عن يمين طاق المحراب.

وكذا قال النخعي.

واستدلوا بما روى علي بن عياش، عن الوليد بن كامل، عن المهلب بن حجر البهراني، عن ضباعة بنت المقداد بن الأسود، عن أبيها: ما رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي إلى عود ولا إلى عمود ولا إلى شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر، ولا يصمد له صمدا.

خرجه الإمام أحمد وأبو داود.

وخرجه الإمام أحمد - أيضا من رواية بقية بن الوليد، عن الوليد بن كامل، عن حجر - أو ابن حجر - بن المهلب، عن ضبيعة بنت المقداد بن معد يكرب، عن أبيها، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا صلى إلى عمود أو خشبة أو شبه ذلك لا يجعله نصب عينيه ولكن يجعله على حاجبه الأيسر.

ولعل هذه الرواية أشبه: وكلام ابن معين وأبي حاتم الرازي يشهد له.

والشاميون كانوا يسمون المقدام بن معد يكرب: المقداد، ولا ينسبونه - أحيانا، فيظن من سمعه غير منسوب أنه ابن الأسود، وإنما هو ابن معد يكرب وقد وقع هذا الاختلاف لهم في غير حديث من رواياتهم.

والمهلب بن حجر شيخ ليس بالمشهور.

والوليد، قال أبو حاتم: وهو شيخ.
وقال البخاري: عنده عجائب.

قال القرطبي: لعل هذا كَانَ أول الإسلام؛ لقرب العهد بإلف عبادة الحجارة والأصنام، حتى تظهر المخالفة في استقبال السترة لما كانوا عليه من استقبالهم تلك المعبودات.
انتهى.

وقد كره مالك أن يصلي إلى حجر في الطريق، فأما إلى حجارة كثيرة فجائز.

ذكره في ( ( تهذيب المدونة) ) .

وقد ورد النهي عن أن يوطن الرجل له مكانا في المسجد يصلي فيه: من رواية تميم بن محمود، عن عبد الرحمن بن شبل، قال: نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن نقرة الغراب، وافتراش السبع، وأن يوطن الرجل المكان الذي في المسجد كما يوطن البعير.

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه.

وفي إسناده اختلاف كثير.

وتميم بن محمود، قال البخاري: في حديثه نظر.

وقد حمل أصحابنا حديث النهي على الصلاة المفروضة، وحديث الرخصة على الصلاة النافلة.

وكان للإمام أحمد مكان يقوم فيه في الصلاة المكتوبة خلف الإمام، فتأخر يوماً فنحاه الناس وتركوه، فجاء بعد ذلك فقام في طرف الصف ولم يقم فيه، وقال: قد جاء أنه يكره أن يوطن الرجل مكانه.



[ قــ :490 ... غــ :503 ]
- حدثنا قبيصة: ثنا سفيان، عن عمرو بن عامر، عن أنس، قال: لقد أدركت كبار أصحاب محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبتدرون السواري عند المغرب.

وزاد شعبة، عن عمرو، عن أنس: حتى يخرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

رواية شعبة قد أسندها البخاري في ( ( كتاب الأذان) ) .

وخرج مسلم من رواية عبد العزيز بن صهيب، عن أنس، قال: كنا بالمدينة، فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب ابتدروا السواري، فركعوا ركعتين، حتى أن الرجل الغريب ليدخل المسجد فيحسب أن الصلاة قد صليت من كثرة من يصليهما.

فهذا الحديث: يدل على أن عادة أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في زمنه كان التنفل إلى السواري قبل الصلاة المكتوبة وبعدها، وبخلاف الصلاة المكتوبة، فإنهم كانوا يصلونها صفوفاً صفوفاً، ولا يعتبرون لها سترةً، بل يكتفون بسترة إمامهم.

وروى وكيع، عن هشام بن الغاز، عن نافع، قال: كان ابن عمر إذا لم يجد سبيلاً إلى سارية من سواري المسجد قال لي: اجلس وول ظهرك.