فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب: إذا قال الإمام: مكانكم حتى رجع انتظروه

باب إذا قال الإمام: ((مكانكم حتى أرجع)) انتظروه
[ قــ :622 ... غــ :640 ]
- حدثنا إسحاق: ثنا محمد بن يوسف: ثنا الأوزاعي، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، قال: أقيمت الصلاة، فسوى الناس صفوفهم، فخرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فتقدم وهو جنب، فقال: ((على مكانكم)) ، فرجع فاغتسل، ثم خرج ورأسه يقطر ماء، فصلى بهم.

قد تقدم الكلام في القيام قبل خروج الإمام، وانتظار المأمومين له قيأماقبل خروجه، فأماإذا ذكر حاجة فانصرف من المسجد وقال لهم: ((مكانكم حتى أرجع)) ، فإنهم ينتظرونه قيأماحتى يرجع إليهم، كما فعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الحديث.

وفي الرواية المذكورة في الباب الماضي، قال: ((فمكثنا على هيئتنا حتى خرج الينا)) ، وهذا يدل على انهم انتظروه قياماً.

ورواه بعضهم: ((على هينتنا)) من الهينة، وهي الرفق، وكأنها تصحيف.
والله اعلم.

وفي رواية لمسلم في هذا الحديث: ((فلم نزل قيأماننتظره حتى خرج الينا، وقد اغتسل)) .
وفي رواية لمسلم - أيضا - في هذا الحديث: ((فأومأ إليهم بيده أن مكانكم)) .

وفيه: دليل على أن إيماء القادر على النطق يكتفى به في العلم، والأمر، والنهي، وقد سبق ذلك مستوفى في ((كتاب العلم)) .

وفي رواية لمسلم –أيضا - في هذا الحديث: ((فإتى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى إذاقام في مصلاه قبل ان يكبر، ذكر فانصرف وقال لنا: ((مكانكم)) .

وهذه الرواية صريحة في أنه انصرف قبل التكبير، وهو – أيضا - ظاهر رواية البخاري.

قال الحسن بن ثواب: قيل لأبي عبد الله – يعين: أحمد بن حنبل - وأنا أسمع: النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين أومأ إليهم ان امكثوا، فدخل فتوضأ ثم خرج، أكان كبر؟ فقال: يروى أنه كبر، وحديث أبي سلمة لما أخذ القوم أماكنهم من الصف، قال لهم: ((امكثوا)) ، ثم خرج فكبر.

فبين أحمد ان حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة يدل على انه لم يكن كبر، وأماقوله: ((يروى أنه كبر)) ، فيدل على أن ذلك قد روي، وأنه مخالف لحديث أبي سلمة، عن أبي هريرة، وأن حديث أبي سلمة أصح، وعليه العمل.

وقد خرج أبو داود من حديث زياد الأعلم، عن الحسن، عن أبي بكرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل في صلاة الفجر، فأومأ بيده أن مكانكم، ثم جاء ورأسه يقطر، فصلى.

وفي رواية له - أيضا -: ((فكبر)) وقال فيه: فلما قضى الصلاة قال: ((إنما أنا بشر، وإني كنت جنباً)) .

وخرجه الإمام أحمد بمعناه - أيضا.

قال أبو داود: ورواه أيوب وهشام وابن عون، عن محمد، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسلاً، قال: فكبر، ثم اومأ إلى القوم أن اجلسوا، فذهب واغتسل، وكذلك رواه مالك، عن إسماعيل بن أبي حكيم، عن عطاء بن يسار: أن وسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبر في صلاة.

قال أبو داود: وكذلك حدثنا مسلم بن إبراهيم: ثنا أبان، عن يحيى يعني: ابن أبي كثير -، عن الربيع بن محمد، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه كبر.
انتهى.

وهذه كلها مرسلات.
وحديث الحسن، عن أبي بكرة في معنى المرسل؛ لأن الحسن لم يسمع من أبي بكرة عند الإمام أحمد والأكثرين من المتقدمين.

وقد روي حديث ابن سيرين مسنداً، رواه الحسن بن عبد الرحمن الحارثي، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة - مسنداً.

قال البيهقي: والمرسل أصح.

وقد روي موصولاً من وجه آخر:
خرجه الإمام أحمد، وابن ماجه من رواية اسامة بن زيد، عن عبد الله ابن يزيد مولى الاسود بن سفيان، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أبي هريرة، قال: خرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الصلاة، وكبر، ثم أشار اليهم فمكثوا، ثم انطلق فاغتسل، وكان رأسه يقطر ماءً، فصلى بهم، فلما انصرف قال: ((إني خرجت إليكم جنباً، وإني أنسيت حتى قمت في الصلاة)) .

واسامة بن زيد، هو الليثي، وليس بذلك الحافظ.

وروى معاذ بن معاذ: حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس، قال: دخل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاته، فكبر فكبرنا معه، ثم اشار إلى الناس أن كما أنتم، فلم نزل قيأماحتى أتانا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قد اغتسل ورأسه يقطر.
قال البيهقي: خالفه عبد الوهاب بن عطاء، فرواه عن سعيد، عن قتادة، عن بكر المزني.

وقد بنى الشافعي على رواية من روى: أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان كبر ثم ذكر، ووافقه الإمام أحمد في رواية الأثرم وغيره.

وهؤلاء استدلوا بهذا الحديث على أن من صلى خلف محدث ناسٍ لحدثه ان صلاته مجزئه عنه، ويعيد الإمام وحده إذا ذكر بعد تمام صلاته، كما روي عن عمر وعثمان.

وقيل: إنه لا مخالف لهما من الصحابة، بل قد روي مثله عن علي، وابن عمر - أيضا -، وهو قول جمهور العلماء، منهم: النخعي، وسفيان، ومالك، والشافعي، وأحمد.

قال ابن مهدي: قلت لسفيان الثوري: تعلم ان أحداً قال: يعيد ويعيدون عن حماد؟ قال: لا.

وهذا إذا استمر نسيان الإمام حتى فرغ من صلاته، فأماإن ذكر في اثناء صلاته فخرج، فتطهر ثم عاد، فإن الإمام لا يبني على ما مضى من صلاته بغير طهارة بغير خلاف، فإن من صلى بغير طهارة ناسياً فإن عليه الإعادة بالإجماع؛ لقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)) ، وقوله: ((لا يقبل الله صلاة بغير طهور)) .
وحكى ابن عبد البر عن قوم أنهم جوزوا البناء على ما مضى من صلاته محدثا ناسياً، وأشار إلى انه قول مخالف للإجماع، فلا يعتد به.

وليس في الحديث ان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنى على ما مضى من تكبيرة الإحرام وهو ناس لجنابته، فإن قدر أن ذلك وقع فهو منسوخ؛ لإجماع الأمة على خلافه، كما ذكره ابن عبد البر وغيره، فلم يبق إلا أحد وجهين:
أحدهما: أن يكون - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما رجع كبر للإحرام، وكبر الناس معه.

وعلى هذا التقدير، فلا يبقى في الحديث دلالة على صحة الصلاة خلف إمام صلى بالناس محدثاً ناسياً لحدثه.
أن يكون النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استأنف تكبيرة الإحرام، وبنى الناس خلفه على تكبيرهم الماضي.

وهذا هو الذي اشار اليه الشافعي، وجعله عمدة على صحة صلاة المتطهر خلف إمام صلى محدثاً ناسياً لحدثه.

قال ابن عبد البر: وقد وافق الشافعي على ذلك بعض أصحاب مالك.
قال: ولا يصح عندي ذلك على أصول مالك؛ لأن مالكاً لا يجيز للمأموم ان يكبر قبل إمامه، وإنما يجيزه الشافعي.

يشير إلى أنه على هذا التقدير يصير المأموم قد كبر منفرداً، ثم انتقل إلى ائتمامه بالإمام، وهذا يجيزه الشافعي دون مالك.

وفيما قاله ابن عبد البر نظر؛ فإن المأموم إنما كبر مقتدياً بإمام يصح الاقتداء به، ثم بطلت صلاته بذكره، فاستأنف صلاته، فلم يخرج المأموم عن كونه مقتدياً بإمام يصح الاقتداء به، فهو كمن صلى خلف إمام، ثم سبقه الحدث في اثناء صلاته في المعنى.

وعن الإمام أحمد في ابتداء المأمومين وإتمامهم الصلاة إذا اقتدوا بمن نسي حدثه، ثم علم به في اثناء صلاته - روايتان.

وروي عن الحسن، أنهم يتمون صلاتهم.

ومذهب الشافعي: لا فرق بين ان يكون الإمام ناسياً لحدثه أو ذاكراً له، إذالم يعلم الماموم، أنه لا إعادة على المأموم.

وهو قول ابن نافع من المالكية، وحكاه ابن عبد البر عن جمهور فقهاء الأمصار وأهل الحديث.

وعن مالك وأحمد: على الماموم الإعادة.

وقال حماد وأبو حنيفة وأصحابه وسفيان الثوري - في اشهر الروايتين عنه -: يعيد المأموم، وإن كان الإمام ناسياً ولم يذكر حتى فرغ من صلاته.

وهو رواية ضعيفة عن أحمد.

وحكي عنه رواية ثالثة: أن قرأ المأموم لنفسه فلا إعادة عليه، وإلا فعليه الإعادة.

وهذا قد يرجع إلى القول بأنه تصير صلاة المأموم في هذه الحال منفرداً.

والجمهور على ان صلاته في جماعة، وهو اصح الوجهين للشافعية، بل قد قيل: إنه نص الشافعي.

وروي عن علي: أن الإمام والمأمومين يعيدون، ولا يصح عنه؛ فإنه من رواية عمرو بن خالد الواسطي، وهو كذاب.

وفيه حديث مرسل: رواه أبو جابر البياضي - وهو متروك - عن ابن المسيب - مرسلاً.