فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب فضل الجهاد والسير

كتاب الجهاد والسير
بكسر السين المهملة وفتح التحتية وجاء في الفرع بفتح السين وسكون التحتية جمع سيرة وهي الطريقة، وأطلق ذلك على أبواب الجهاد لأنها متلقاة من أحوال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفي غزواته.
والجهاد: بكسر الجيم مصدر جاهدت العدوّ مجاهدة وجهادًا وأصله جيهاد كقيتال فخفف بحذف الياء وهو مشتق من الجهد بفتح الجيم وهو التعب والمشقّة لما فيه من ارتكابها أو من الجهد بالضم وهو الطاقة لأن كل واحد منهما بذل طاقته في دفع صاحبه، وهو في الاصطلاح قتال الكفار لنصرة الإسلام وإعلاء كلمة الله، ويطلق أيضًا على جهاد النفس والشيطان وهو من أعظم الجهاد، والمراد بالترجمة الأول والأصل فيه قبل الإجماع آيات كقوله تعالى: { كتب عليكم القتال} [البقرة: 216] { وقاتلوا المشركين كافة} [التوبة: 36] وكان قبل الهجرة محرمًا ثم أمر -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعدها بقتال من قاتله ثم أبيح الابتداء به في غير الأشهر الحرم ثم أمر به مطلقًا.
ثم أن الجهاد قد يكون فرض عين، وقد يكون فرض كفاية لأن الكفار إن دخلوا بلادنا أو أسروا مسلمًا يتوقع فكّه ففرض عين.
وإن كان ببلادهم ففرض كفاية، ويأتي البحث في ذلك إن شاء الله تعالى في باب: وجوب النفير.


باب فَضْلُ الْجِهَادِ وَالسِّيَرِ
وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ, وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ؟ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ -إِلَى قَوْلِهِ- وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 111] .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحُدُودُ الطَّاعَةُ.

(بسم الله الرحمن الرحيم).
قدم النسفيّ البسملة وسقط كتاب الترجمة لأبي ذر كما في الفرع وأصله.

(باب فضل الجهاد والسير).
سقط لفظ باب لأبي ذر وحينئذ فقوله فضل رفع بالابتداء.

(وقول الله تعالى) بالجر عطفًا على المجرور أو بالرفع ولأبي ذر عز وجل بدل قوله تعالى: ({ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} ) أي طلب من المؤمنين أن يبذلوا أنفسهم وأموالهم في الجهاد في سبيل الله ليثيبهم الجنة، وذكر الشراء على وجه المثل لأن الأنفس والأموال كلها لله وهي عندنا عارية، ولكنه قال أراد التحريض والترغيب في الجهاد وهذا كقوله تعالى: { من ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنا} [البقرة: 245] .
والباء في بأن للمعاوضة وهذا من فضله تعالى وكرمه وإحسانه فإنه قبل العوض عما يملكه بما تفضل به على عباده المطيعين له، ولذا قال الحسن البصري: بايعهم الله فأغلى ثمنهم، وقال عبد الله بن رواحة لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليلة العقبة: أشترط لربك ولنفيك ما شئت.
فقال: "أشترط لربي أن تصدقوه ولا تشركوا به شيئًا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم" قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: "الجنة" قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل.
فنزلت: { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} .

({ يقاتلون في سبيل الله} ) أي في طاعته مع العدوّ وهذا كما قال الزمخشري في معنى الأمر أو هو بيان ما لأجله الشراء ({ فيَقْتلون ويُقْتلون} ) أي يقتلون العدوّ ويقتلهم ({ وعدًا عليه حقًّا} ) مصدر مؤكد أي أن هذا الوعد الذي وعده للمجاهدين في سبيله وعد ثابت قد أثبته ({ في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله} ) مبالغة في الإنجاز وتقرير لكونه حقًّا.
({ فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به} ) [التوبة: 111، 112] .
أي فافرحوا به غاية الفرح فإنه أوجب لكم عظائم المطالب وذلك هو الثواب الوافر، (-إلى قوله- { وبشر المؤمنين} ) [التوبة: 112] أي الموصوفين بتلك الفضائل من التوبة والعبادة والصوم وغير ذلك مما في الآية، وساق في رواية أبي ذر إلى قوله: { وعدًا عليه حقًّا} ثم قال إلى قوله: { والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين} وللنسفي وابن شبويه: { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} الآيتين إلى قوله: { وبشر المؤمنين} وساق في رواية الأصيلي وكريمة الآيتين جميعًا قاله في فتح الباري.

(قال ابن عباس) -رضي الله عنهما- فيما وصله ابن أبي حاتم في تفسير قوله تعالى: { تلك حدود الله} [البقرة: 187] .
(الحدود الطاعة).
وكأنه تفسير باللازم لأن من أطاع الله وقف عند امتثال أمره واجتناب نهيه.


[ قــ :2655 ... غــ : 2782 ]
- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْوَلِيدَ بْنَ الْعَيْزَارِ ذَكَرَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-: "سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الصَّلاَةُ عَلَى مِيقَاتِهَا.
قُلْتُ: ثُمَّ أَىٌّ؟
قَالَ: ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ.
قُلْتُ: ثُمَّ أَىٌّ؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
فَسَكَتُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي".

وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (الحسن بن صباح) بتشديد الموحدة البزار آخره راء أبو علي الواسطي قال: (حدّثنا محمد بن سابق) التميمي البزار الكوفي نزيل بغداد قال: (حدّثنا مالك بن مغول) بكسر الميم وسكون الغين المعجمة وفتح الواو الكوفي (قال: سمعت الوليد بن العيزار) بفتح العين المهملة وسكون التحتية وبالزاي وبعد الألف راء ابن حريث العبدي الكوفي (ذكر عن أبي عمرو) بفتح العين سعد بن أياس (الشيباني) بالشين المعجمة المفتوحة أنه (قال: قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: سألت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قلت يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال:
(الصلاة على ميقاتها) على بمعنى في لأن الوقت ظرف لها (قلت: ثم أيّ)؟ بالتشديد منوّنًا.

قال ابن الخشاب: لا يجوز غيره لأنه اسم معرب غير مضاف وسبق زيادة بحث في هذا في المواقيت (قال): عليه الصلاة والسلام (ثم برّ الوالدين) أي بالإحسان إليهما وترك عقوقهما (قلت: ثم أيّ؟ قال): (الجهاد في سبيل الله) بالنفس والمال، وإنما خصّ هذه الثلاثة بالذكر لأنها عنوان على ما سواها من الطاعات لأن من حافظ عليها كان لما سواها أحفظ، ومن ضيعها كان لما سواها أضيع.

قال ابن مسعود (فسكت عن) سؤال (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) حينئذ (ولو استزدته) أي طلبت منه الزيادة في السؤال (لزادني) في الجواب.

وهذا الحديث قد سبق في المواقيت من كتاب الصلاة.




[ قــ :656 ... غــ : 783 ]
- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا".

وبه قال: ( حدّثنا عليّ بن عبد الله) المديني قال: ( حدّثنا يحيى بن سعيد) القطان قال: ( حدّثنا سفيان) الثوري ( قال: حدّثني) بالإفراد ( منصور) هو ابن المعتمر ( عن مجاهد) هو ابن جبر بفتح الجيم وسكون الموحدة المخزومي مولاهم المكي الإمام في التفسير ( عن طاوس عن ابن عباس -رضي الله عنهما-) أنه ( قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي يوم فتح مكة سنة ثمان.

( لا هجرة) واجبة من مكة إلى المدينة ( بعد الفتح) أي فتح مكة للاستغناء عن ذلك إذ كان معظم الخوف من أهلها فأمر المسلمون أن يقيموا في أوطانهم، والمراد لا هجرة بعد الفتح لمن لم يكن هاجر بدليل الحديث الآخر يقيم المهاجر ثلاثًا بعد قضاء الحج ( ولكن جهاد) في الكفار ( ونيّة) ، في الخير يحصلون بهما الفضائل التي في معنى الهجرة، وقال النووي: معناه أن تحصيل الخير بسبب الهجرة قد انقطع بفتح مكة لكن حصلوه بالجهاد والنية الصالحة قال: وفيه حثّ على نيّة الخير وأنه
يثاب عليها ( إذا) بالواو.
ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: فإذا ( استنفرتم) بضم التاء وكسر الفاء ( فانفروا) بهمزة وصل وكسر الفاء أيضًا أي إذا طلبكم الإمام إلى الخروج إلى الغزو فاخرجوا إليه.

وهذا دليل على أن الجهاد ليس فرض عين بل فرض كفاية.

وهذا الحديث سبق في كتاب الحج في باب: لا يحل القتال بمكة.




[ قــ :657 ... غــ : 784 ]
- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا خَالِدٌ حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ "عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ، أَفَلاَ نُجَاهِدُ؟ قَالَ: لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ".

وبه قال: ( حدّثنا مسدد) بالسين وتشديد الدال الأولى المهملات ابن مسرهد قال: ( حدّثنا خالد) هو ابن عبد الله الطحان قال: ( حدّثنا حبيب بن أبي عمرة) بفتح العين وسكون الميم الأسدي القصاب ( عن عائشة بنت طلحة) التيمية القرشية ( عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: يا رسول الله نرى) بضم النون وفي نسخة بفتحها وفي أخرى بمثناة فوقية مضمومة وهي التي في الفرع وأصله أي نظن أو نعتقد ( الجهاد أفضل العمل) ، وللنسائي من رواية جرير عن حبيب: فإني لا أرى في القرآن أفضل من الجهاد ( أفلا نجاهد؟ قال) :
( لكن أفضل الجهاد) بضم الكاف وتشديد النون لأبي ذر ولغيره لكن بكسر الكاف وزيادة ألف قبلها أفضل الجهاد بنصب أفضل بلكن ( حج مبرور) خبر مبتدأ محذوف أي هو حج.

وهذا الحديث قد سبق في الحج.




[ قــ :658 ... غــ : 785 ]
- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جُحَادَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو حَصِينٍ أَنَّ ذَكْوَانَ حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- حَدَّثَهُ قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ.
قَالَ: لاَ أَجِدُهُ.
قَالَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ وَلاَ تَفْتُرَ، وَتَصُومَ وَلاَ تُفْطِرَ؟ قَالَ: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنَّ فَرَسَ الْمُجَاهِدِ لَيَسْتَنُّ فِي طِوَلِهِ، فَيُكْتَبُ لَهُ حَسَنَاتٍ".

وبه قال: ( حدّثنا إسحاق بن منصور) وسقط لأبي ذر ابن منصور قال: ( أخبرنا عفان) بن مسلم الصفار قال: ( حدّثنا همام) بتشديد الميم الأولى ابن يحيى بن دينار العوذي الشيباني قال: ( حدّثنا محمد بن جحادة) بجيم مضمومة فحاء مهملة مخففة الأيامى ( قال: أخبرني) بالإفراد ( أبو حصين) بفتح الحاء وكسر الصاد المهملتين عثمان بن عاصم الأسدي ( أن ذكوان) الزيات ( حدّثه أن أبا هريرة رضي الله عنه حدّثه قال: جاء رجل) قال ابن حجر: لم أقف على اسمه ( إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: دلّني) بفتح اللام ( على عمل يعدل الجهاد) أي يساويه ويماثله.
( قال) : عليه الصلاة والسلام:
( لا أجده) أي لا أجد العمل الذي يعدل الجهاد ثم ( قال) عليه الصلاة والسلام مستأنفًا: ( هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم) بالنصب عطفًا على أن تدخل ( ولا تفتر وتصوم ولا تفطر) بنصبهن عطفًا على السابق ( قال) : الرجل ( ومن يستطيع ذلك) ؟
( قال أبو هريرة) : موقوفًا عليه، وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الخيل ثلاثة من طريق زيد بن أسلم عن أبي صالح مرفوعًا: ( إن فرس المجاهد ليستنّ) من الاستنان وهو العدو، وقال الجوهري هو أن يرفع يديه ويطرحهما معًا ( في طوله) ، بكسر الطاء المهملة وفتح الواو وحبله المشدود به المطوّل له ليرعى وهو بيد صاحبه ( فيكتب له حسنات) .
أي فيكتب له استنانه حسنات فالضمير راجع إلى المصدر الذي دل عليه ليستنّ فهو مثل: اعدلوا هو أقرب للتقوى وحسنات نصب على أنه مفعول ثانٍ.

وهذا الحديث أخرجه النسائي في الجهاد أيضًا.