فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب الطلاق في الإغلاق والكره، والسكران والمجنون وأمرهما، والغلط والنسيان في الطلاق والشرك وغيره

باب الطَّلاَقِ فِي الإِغْلاَقِ وَالْكُرْهِ وَالسَّكْرَانِ وَالْمَجْنُونِ وَأَمْرِهِمَا وَالْغَلَطِ وَالنِّسْيَانِ فِي الطَّلاَقِ وَالشِّرْكِ وَغَيْرِهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»
وَتَلاَ الشَّعْبِيُّ { لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} وَمَا لاَ يَجُوزُ مَنْ إِقْرَارِ الْمُوَسْوِسِ.
.

     وَقَالَ  النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلَّذِي أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ: «أَبِكَ جُنُونٌ»؟.

     وَقَالَ  عَلِيٌّ: بَقَرَ حَمْزَةُ خَوَاصِرَ شَارِفَيَّ فَطَفِقَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَلُومُ حَمْزَةَ، فَإِذَا حَمْزَةُ قَدْ ثَمِلَ مُحْمَرَّةٌ عَيْنَاهُ.
ثُمَّ قَالَ حَمْزَةُ: هَلْ أَنْتُمْ إِلاَّ عَبِيدٌ لأَبِي؟ فَعَرَفَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَدْ ثَمِلَ، فَخَرَجَ وَخَرَجْنَا مَعَهُ.
.

     وَقَالَ  عُثْمَانُ لَيْسَ لِمَجْنُونٍ وَلاَ لِسَكْرَانَ طَلاَقٌ.
.

     وَقَالَ  ابْنُ عَبَّاسٍ: طَلاَقُ السَّكْرَانِ وَالْمُسْتَكْرَهِ لَيْسَ بِجَائِزٍ.
.

     وَقَالَ  عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ: لاَ يَجُوزُ طَلاَقُ الْمُوَسْوِسِ.
.

     وَقَالَ  عَطَاءٌ: إِذَا بَدَا بِالطَّلاَقِ فَلَهُ شَرْطُهُ.
.

     وَقَالَ  نَافِعٌ: طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ إِنْ خَرَجَتْ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنْ خَرَجَتْ فَقَدْ بُتَّتْ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
.

     وَقَالَ  الزُّهْرِيُّ فِيمَنْ قَالَ: إِنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ: يُسْأَلُ عَمَّا قَالَ وَعَقَدَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ حِينَ حَلَفَ بِتِلْكَ الْيَمِينِ، فَإِنْ سَمَّى أَجَلًا وَعَقَدَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ حِينَ حَلَفَ جُعِلَ ذَلِكَ فِي دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ.
.

     وَقَالَ  إِبْرَاهِيمُ: إِنْ قَالَ لاَ حَاجَةَ لِي فِيكِ نِيَّتُهُ.
وَطَلاَقُ كُلِّ قَوْمٍ بِلِسَانِهِمْ.

     وَقَالَ  قَتَادَةُ: إِذَا قَالَ: إِذَا حَمَلْتِ
فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا يَغْشَاهَا عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ مَرَّةً، فَإِنِ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا فَقَدْ بَانَتْ.

     وَقَالَ  الْحَسَنُ: إِذَا قَالَ الْحَقِي بِأَهْلِكِ نِيَّتُهُ:.

     وَقَالَ  ابْنُ عَبَّاسٍ الطَّلاَقُ عَنْ وَطَرٍ، وَالْعَتَاقُ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ.

     وَقَالَ  الزُّهْرِيُّ: إِنْ قَالَ مَا أَنْتِ بِامْرَأَتِي نِيَّتُهُ، وَإِنْ نَوَى طَلاَقًا فَهْوَ مَا نَوَى.

     وَقَالَ  عَلِيٌّ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الْقَلَمَ رُفِعَ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ وَعَنِ الصَّبِىِّ حَتَّى يُدْرِكَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ.
.

     وَقَالَ  عَلِيٌّ: وَكُلُّ الطَّلاَقِ جَائِزٌ إِلاَّ طَلاَقَ الْمَعْتُوهِ.

( باب) بيان حكم ( الطلاق في الإغلاق) بكسر الهمزة وسكون الغين المعجمة آخره قاف وهو الإكراه وسمي به لأن المكره كأنه يغلق عليه الباب ويضيق عليه حتى يطلق، وقيل العمل في الغضب وتمسك بهذا التفسير بعض متأخري الحنابلة القائلين، بأن الطلاق في الغضب لا يقع ولم يوجد عن أحد من متقدّميهم لكن ردّ هذا التفسير المطرزي والفارسي بأن طلاق الناس غالبًا إنما هو في حال الغضب ولو جاز عدم وقوع طلاق الغضبان لكان لكل أحد أن يقول كنت غضبان فلا يقع عليّ طلاق ( و) حكم ( المكره) بضم الميم وفتح الراء وفي اليونينية والكره بغير ميم وضم الكاف وسكون الراء ( و) حكم ( السكران و) حكم ( المجنون وأمرهما) هل هو واحد أو مختلف ( و) حكم ( الغلط والنسيان) الواقعين ( في الطلاق و) حكم ( الشرك) إذا وقع من المكلّف ما يقتضيه غلطًا أو نسيانًا هل يحكم به أم لا وإذا كان لا يحكم عليه به فالطلاق كذلك ( وغيره) أي غير الشرك مما هو دونه أو غير ما ذكر نحو الخطأ وسبق اللسان والهزل.
وحكى ابن الملقن أن في بعض النسخ والشك بدل والشرك.
قال الزركشي: وهو أليق.
وقال ابن بطال: وهو الصواب لكن قال الحافظ ابن حجر: إنه لم يرها في شيء من النسخ التي وقف عليها، ( لقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: الأعمال بالنية) بالإفراد ( ولكل امرئ ما نوى) فإنما يعتبر ما ذكر من الإكراه وغيره مما سبق بالنية وإنما يتوجه على العاقل المختار العامد الذاكر.

( وتلا الشعبي) عامر بن شراحيل قرأ قوله تعالى مستدلاًّ لعدم وقوع طلاق المخطئ والناسيّ: ( { لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} ) [البقرة: 286] وهذا وصله هنا ابن السري الصغير في فوائده ( و) بيان ( ما لا يجوز من إقرار الموسوس) بسينين مهملتين وفتح الواو الأولى وكسر الثانية.

( وقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: للذي أقرّ على نفسه) بالزنا ( أبك جنون) فقال: لا، الحديث الآتي إن شاء الله تعالى في الحدود بمباحثه بعون الله وفضله.

( وقال عليّ) -رضي الله عنه-: ( بقر) بالموحدة والقاف المخففة شق ( حمزة) بن عبد المطلب ( خواصر شارفيَّ) بفتح الفاء وتشديد التحتية تثنية شارف الناقة المسنة ( فطفق) شرع أو جعل
( النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يلوم حمزة) على فعله ذلك ( فإذا حمزة قد ثمل) بفتح المثلثة وكسر الميم سكر مبتدأ وخبر ( محمرة عيناه) خبر بعد خبر ( ثم قال حمزة) -رضي الله عنه-: ( هل) ولأبي ذر وابن عساكر وهل ( أنتم إلا عبيد لأبي فعرف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قد ثمل، فخرج) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من عند حمزة ( وخرجنا معه) أي ولم يؤاخذه فتمسك به من قال بعدم مؤاخذة السكران بما يقع منه حال سكره من طلاق وغيره.

وقد سبق هذا الحديث موصولًا في غزوة بدر من المغازي.

( وقال عثمان) بن عفان -رضي الله عنه-: ( ليس لمجنون ولا لسكران طلاق) وصله ابن أبي شيبة.

( وقال ابن عباس) -رضي الله عنهما- مما وصله سعيد بن منصور وابن أبي شيبة بمعناه: ( طلاق السكران والمستكره ليس بجائز) أي ليس بواقع إذ لا عقل للسكران المغلوب على عقله ولا اختيار للمستكره.

( وقال عقبة بن عامر) الجهني ( لا يجوز) أي لا يقع ( طلاق الموسوس) لأن الوسوسة حديث النفس ولا مؤاخذة بما يقع في حديث النفس.

( وقال عطاء) هو ابن أبي رباح مما سبق في الشروط في الطلاق ( إذا) أراد أن يطلق و ( بدأ بالطلاق) قبل الشروط بأن قال أنت طالق إن دخلت الدار ( فله شرطه) كما في العكس بأن يقول إن دخلت الدار فأنت طالق فلا يلزم تقديم الشرط على الإطلاق بل يصح سابقًا ولاحقًا وإن قال ابتداء من غير ذكر شرط مقتصرًا عليه فأنت طالق وقال: أردت الشرط فسبق لساني إلى الجزاء لم يقبل منه ظاهرًا لأنه متّهم وقد خاطبها بصريح الطلاق والفاء تُزاد في غير الشرط وإن قال: إن دخلت الدار أنت طالق بحذف الفاء فهو تعليق.

( وقال نافع) مولى ابن عمر لابن عمر: إذا ( طلق رجل امرأته البتة) نصب على المصدر أي طلاقًا بائنًا ( إن خرجت) أي من الدار ما حكمه ( فقال ابن عمر) -رضي الله عنهما-: ( إن خرجت) أي من الدار ( فقد بتّت منه) بضم الموحدة وتشديد الفوقية الأولى أي انقطعت منه فلا رجعة له فيها ولأبي ذر إن خرجت فقد بنت بموحدة مكسورة فنون ساكنة ففوقية مكسورة ( وإن لم تخرج) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي وإن لم تخرجي منها ( فليس بشيء) لعدم وجود الشرط.

( وقال الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب ( فيمن قال: إن لم أفعل كذا وكذا فامرأتي طالق ثلاثًا يسأل عما قال وعقد عليه قلبه حين حلف بتلك اليمين فإن سمي أجلًا أراد وعقد عليه قلبه حين حلف جعل) بضم الجيم وكسر العين ( ذلك في دينه وأمانته) أي يدين فيما بينه وبين الله تعالى، قال في الفتح: أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري مختصرًا ولفظه في الرجلين يحلفان بالطلاق والعتاق على أمر يختلفان فيه ولم تقم على واحد منهما بيّنة على قوله قال: يدينان ويحملان من ذلك ما تحملا.

( وقال إبراهيم) النخعي ( إن قال) لامرأته ( لا حاجة لي فيك) تعتبر ( نيته) فإن نوى الطلاق طلقت وإلاّ فلا رواه ابن أبي شيبة ( وطلاق كل قوم بلسانهم) عجميًّا أو غيره وهذا وصله ابن أبي شيبة أيضًا.
وقال في الروضة: ترجمة لفظ الطلاق بالعجمية وسائر اللغات صريح على المذهب لشهرة استعمالها في معناها عند أهل تلك اللغات كشهرة العربية عند أهلها وقيل وجهان ثانيهما أنها كناية.

( وقال قتادة) بن دعامة مما وصله ابن أبي شيبة ( إذا قال) الرجل لامرأته ( إذا حملت فأنت طالق ثلاثًا، يغشاها) أي يجامعها ( عند كل طهر مرة) واحدة ( فإن استبان) ظهر ( حملها فقد بانت) طلقت ( منه) ثلاثًا وهو قول الجمهور، وقال المالكية: يحنث بالوطء من بعد التعليق استبان بها حمل أم لا.
رواه ابن القاسم لأن الحمل موقوف على سبب والسبب بيد الحالف إن شاء أوقعه وإن شاء لم يوقعه وهو الوطء، واختلف بعد الوطء فقال في المدونة: يعجل عليه الطلاق بأثر الوطء.
وقال ابن الماجشون: لا يعجل عليه وينتظر ثم يطؤها في كل طهر مرة، وقال أشهب: لا شيء عليه حتى يكون ما شرط، وقال ابن يونس: فوجه قول ابن القاسم أنه إذا وطئها صار حملها مشكوكًا فيه فيعجل الطلاق لأن كل من شك هل حنث أم لا فهو حانث، ووجه قول أشهب أن من أصله أنه لا يطلق إلا على من علق على آت لا بدّ منه، ووجه قول ابن الماجشون أنه لا يحصل الحمل من كل وطء فوجب أن لا تطلق عليه حتى يختبر أمر هذا الوطء ويمسك عن وطئها إذ لا يدري هل حملت منه أم لا، وسقط لأبي ذر لفظ منه وهذا وصله ابن أبي شيبة.

( وقال الحسن) البصري فيما وصله عبد الرزاق ( إذا قال) لامرأته: ( الحقي) بكسر أوّله وفتح ثالثه وقيل عكسه ( بأهلك نيته) إن نوى الطلاق وقع وإلاّ فلا.

( وقال ابن عباس) -رضي الله عنهما- ( الطلاق عن وطر) بفتحتين حاجة فلا يطلق الرجل إلا عند الحاجة كالنشوز ( والعتاق ما أريد به وجه الله) فهو مطلوب دائمًا.

( وقال الزهري) محمد بن مسلم ( إن قال) لامرأته: ( ما أنت بامرأتي) تعتبر ( نيته وإن نوى طلاقًا فهو ما نوى) وهذا وصله ابن أبي شيبة عن عبد الأعلى عن معمر عن الزهري وكذا من طريق قتادة لكنه قال: إذا وجهها به وأراد الطلاق فواحدة وقال الحنفية: إذا قال لست لي بامرأة وما أنا لك بزوج ونوى الطلاق يقع عند أبي حنيفة.
وقال صاحباه: لا لأن نفي النكاح ليس بطلاق بل كذب فهو كقوله: والله لم أتزوجك والله ما أنت لي بامرأة.
وقال المالكية: إن قال لامرأته لست لي بامرأة أو ما أنت لي بامرأة أو لم أتزوجك فلا شيء عليه في ذلك إلا أن ينوي به الطلاق.

( وقال علي) -رضي الله عنه- فيما وصله البغوي في الجعديات عن علي بن الجعد عن شعبة عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس أن عمر أُتي بمجنونة قد زنت وهي حبلى فأراد أن يرجمها فقال له علي: ( ألم تعلم) ولأبي ذر عن الكشميهني ألم تر ( أن القلم رفع) وفي الجعديات أما
بلغك أن القلم قد وضع ( عن ثلاثة عن المجنون حتى يفيق) من جنونه ( وعن الصبي حتى يدرك) الحلم ( وعن النائم حتى يستيقظ) من نومه.
ورواه جرير بن حازم عن الأعمش فصرّح فيه بالرفع أخرجه أبو داود وابن حبان من طريقه، وأخرجه النسائي من وجهين آخرين عن أبي ظبيان عن علي مرفوعًا وموقوفًا ورجح الموقوف على المرفوع، وقد أخذ بمقتضى هذا الحديث الجمهور فشرطوا في المطلق ولو بالتعليق أن يكون مكلفًا فلا يصح من غيره.

( وقال علي) -رضي الله عنه- فيما وصله البغوي في الجعديات أيضًا ( وكل الطلاق) ولأبي ذر وكل طلاق ( جائز إلا طلاق المعتوه) بفتح الميم وسكون العين المهملة وضم الفوقية وبعد الواو هاء، وفيه حديث مرفوع عند الترمذي من حديث أبي هريرة مرفوعًا "كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه المغلوب على عقله" لكنه من رواية عطاء بن عجلان وهو ضعيف جدًّا.
والمعتوه كالمجنون في نقص العقل فمنه الطفل والمجنون والسكران، وقيل: المعتوه القليل الفهم المختلط الكلام الفاسد التدبير فهو كالمجنون لكنه لا يضرب ولا يشتم بخلاف المجنون، والعاقل من يستقيم كلامه وأفعاله إلا نادرًا، والمجنون ضدّه والمعتوه من يكون ذلك منه على السواء، وهذا يؤدّي إلى أن لا يحكم على أحد بالعته، والقول بأنه القليل الفهم إلى آخره أولى، وقيل من يفعل فعل المجانين عن قصد مع ظهور الفساد والمجنون بلا قصد والعاقل خلافهما وقد يفعل فعل المجانين على ظن الصلاح أحيانًا، وقد علم أن التصرفات لا تنفذ إلا ممن له أهلية التصرف ومدارها العقل والبلوغ خصوصًا ما هو دائر بين الضرر والنفع خصوصًا ما لا يحل إلا لانتفاء مصلحة ضده القائم كالطلاق فإنه يستدعي تمام العقل ليحكم به التمييز في ذلك الأمر ولم يكفّ عقل الصبي العاقل لأنه لم يبلغ الاعتدال بخلاف ما هو حسن لذاته بحيث لا يقبل حسنه السقوط وهو الإيمان حتى صحّ من الصبي العاقل، ولو فرض لبعض الصبيان المراهقين عقل جيد لا يعتبر في التصرفات لأن المدار البلوغ لانضباطه فتعلق به الحكم، وبهذا يبعد ما نقل عن ابن المسيب أنه إذا عقل الصبي الطلاق جاز طلاقه، وعن ابن عمر جواز طلاق الصبي ومراده العاقل، ومثله عن الإمام أحمد والله أعلم بصحة هذه النقول قاله الشيخ كمال الدين بن الهمام -رحمه الله تعالى-.

وعن ابن عباس عند ابن أبي شيبة لا يجوز طلاق الصبي، وسبق في هذا الباب قول عثمان ليس لمجنون ولا لسكران طلاق وزيادة ابن عباس المستكره، وفي مسألة السكران خلاف عالٍ بين التابعين ومن بعدهم فقال بوقوعه من التابعين سعيد بن المسيب وعطاء والحسن البصري وإبراهيم النخعي وابن سيرين ومجاهد، بل قال به من الصحابة عثمان وابن عباس كما مرّ، وبه قال مالك والشافعي وأحمد، في رواية مشهورة عنه والحنفية فيصح منه مع أنه غير مكلف تغليظًا عليه ولأن صحته من قبيل ربط الأحكام بالأسباب كما قاله الغزالي في المستصفى، وأجاب عن قوله تعالى: { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} [النساء: 43] الذي استند إليه الجويني وغيره في تكليف السكران، لأن المراد به هو في أوائل السكر وهو المنتشي لبقاء عقله وانتفاء تكليف السكران لانتفاء الفهم الذي هو شرط التكليف، والمراد بالسكران الذي يصح طلاقه ونكاحه ونحوهما مَن زال
عقله بما أثم به من شرب مُسكِر متعد بشربه.
وقال ابن الهمام: وكونه زوال عقله بسبب هو معصية لا أثر له وإلا صحّت ردّته ولا تصح قلنا لما خاطبه الشرع في سكره بالأمر والنهي بحكم فرعي عرفنا أنه اعتبره كقائم العقل تشديدًا عليه في الأحكام الفرعية، وعقلنا أن ذلك يناسب كونه تسبب في زوال عقله بسبب محظور وهو مختار فيه، وعلى هذا اتفق فتاوى مشايخ المذهبين من الشافعية والحنفية بوقوع طلاق من غاب عقله بأكل الحشيشة وهي المسماة بورق القنب لفتواهم بحرمتها بعد أن اختلفوا فيها فأفتى المزني بحرمتها وأفتى أسد بن عمرو بحلّها لأن المتقدمين لم يتكلموا فيها بشيء لعدم ظهور شأنها فيهم فلما ظهر من أمرها من الفساد كثير وفشا، عاد مشايخ المذهبين إلى حرمتها وأفتوا بوقوع الطلاق ممن زال عقله بها إذا استعملها مختارًا أما إذا أكره على شرب مسكر ولم يعلم أنه مسكر فلا يقع طلاقه لعدم تعدّيه والرجوع في معرفة السكر إلى العرف، ولو قال: إنما شربت الخمر مكرهًا وثم قرينة أو لم أعلم أن ما شربته مسكر صدّق بيمينه قاله الأذرعي، وأما المكره فعند الشافعية لا يصح طلاقه لحديث: وما استكرهوا عليه، وحديث لا طلاق في إغلاق أي إكراه رواه أبو داود والحاكم، وصحح إسناده وحدّ الإكراه أن يهدّد المكره قادر على الإكراه بولاية أو تغلب عاجلًا ظلمًا وعجز المكره عن دفعه بهرب وغيره كاستغاثة بغيره وظنه أنه إن امتنع من فعل ما أكره عليه حقق ما هدده به ويحصل بتخويف بمحذور كضرب شديد أو إتلاف مال، ويختلف باختلاف طبقات الناس وأحوالهم فلا يحصل الإكراه بالتخويف بالعقوبة الآجلة كقوله: لأضربنك غدًا ولا بالتخويف المستحق كقوله لمن له عليه قصاص طلقها وإلاّ اقتصصت منك، فإن ظهر من المكره قرينة اختيار منه للطلاق كأن أكره على ثلاث من الطلقات أو على صريح أو تعليق أو طلاق مبهمة فخالف بأن وحّد أو ثنى أو كنى أو نجز أو طلق معينة وقع الطلاق وقال الحنفية: يقع طلاق المكره لأن المكره مختار في التكلم اختيارًا كاملًا في السبب إلا أنه غير راضٍ بالحكم لأنه عرف الشرّين فاختار أهونهما عليه.


[ قــ :4987 ... غــ : 5269 ]
- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ».
.

     وَقَالَ  قَتَادَةُ: إِذَا طَلَّقَ فِي نَفْسِهِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ.

وبه قال: ( حدّثنا مسلم بن إبراهيم) الفراهيدي قال: ( حدّثنا هشام) الدستوائي قال: ( حدّثنا قتادة) بن دعامة ( عن زرارة بن أوفى) العامري قاضي البصرة ( عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه ( قال) :
( إن الله تجاوز عن أمتي ما حدّثت به أنفسها) بالنصب على المفعولية يقال: حدّثت نفسي بكذا أو بالرفع على الفاعلية يقال: حدّثتني نفسي بكذا ( ما لم تعمل) في العمليات ( أو تتكلم) في القوليات ( وقال قتادة) فيما وصله عبد الرزاق ( إذا طلق) امرأته سرًّا ( في نفسه فليس) طلاق ذلك ( بشيء) .




[ قــ :4988 ... غــ : 570 ]
- حَدَّثَنَا أَصْبَغُ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهْوَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ إِنَّهُ قَدْ زَنَى فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَتَنَحَّى لِشِقِّهِ الَّذِي أَعْرَضَ فَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ فَدَعَاهُ فَقَالَ: «هَلْ بِكَ جُنُونٌ؟ هَلْ أُحْصِنْتَ»؟ قَالَ: نَعَمْ فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُرْجَمَ بِالْمُصَلَّى فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ جَمَزَ حَتَّى أُدْرِكَ بِالْحَرَّةِ فَقُتِلَ.
[الحديث 570 - أطرافه في: 57، 6814، 6816، 680، 686، 7168] .

وبه قال: ( حدّثنا أصبغ) بن الفرج بالجيم المصري قال: ( أخبرنا) بالجمع ولأبي ذر أخبرني ( ابن وهب) عبد الله المصري ( عن يونس) بن يزيد الأيلي ( عن ابن شهاب) الزهري أنه ( قال: أخبرني) بالإفراد ( أبو سلمة بن عبد الرحمن) ثبت ابن عبد الرحمن في رواية أبي ذر ( عن جابر) هو ابن عبد الله الأنصاري -رضي الله عنهما- ( أن رجلًا من أسلم) اسمه ماعز بكسر العين المهملة بعدها زاي ابن مالك الأسلمي ( أتى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو في المسجد فقال: إنه قد زنى فأعرض) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( فتنحى) بالحاء المهملة المشددة قصد ( لشقه) بكسر الشين المعجمة ( الذي أعرض) عنه بوجهه الكريم إلى جهته ( فشهد على نفسه أربع شهادات) أي أقرّ على نفسه أربع مرات بأنه زنى، وسقط لفظ شهادات لابن عساكر ( فدعاه) النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( فقال) له:
( هل بك جنون) ؟ وهذا هو الغرض من هذا الحديث إذ مقتضاه أنه لو كان مجنونًا ما كان يعمل بإقراره والمراد هل كان بك جنون أو هل تجنّ تارة وتفيق أخرى لأنه لما خاطبه كان مفيقًا أو الخطاب له والاستفهام للحاضرين ( هل أحصنت) ؟ بفتح الهمزة والصاد المهملة أو بضم الهمزة وكسر الصاد هل تزوجت قط ( قال: نعم) تزوجت ( فأمر به) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( أن يرجم بالمصلى) بفتح اللام المشددة التي كان يصلّي فيها العيد ( فلما أذلقته) بفتح الهمزة وسكون الذال المعجمة وفتح اللام والقاف وسكون الفوقية أصابته ( الحجارة) بحدّها وآلمته ( جمز) بالجيم والميم والزاي المفتوحات أسرع هاربًا من القتل ( حتى أدرك) بضم الهمزة وكسر الراء ( بالحرة) بالحاء المهملة والراء المشددة المفتوحتين أرض ذات حجارة سود خارج المدينة ( فقتل) بصيغة المجهول.

وهذا الحديث أخرجه أيضًا في المحاربين ومسلم في الحدود وكذا أبو داود والترمذي وأخرجه النسائي في الجنائز.




[ قــ :4989 ... غــ : 571 ]
- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهْوَ فِي الْمَسْجِدِ فَنَادَاهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الآَخِرَ قَدْ زَنَى، يَعْنِي نَفْسَهُ.
فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَتَنَحَّى لِشِقِّ وَجْهِهِ الَّذِي أَعْرَضَ قِبَلَهُ.
فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الآَخِرَ قَدْ زَنَى، فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَتَنَحَّى لِشِقِّ وَجْهِهِ الَّذِي أَعْرَضَ قِبَلَهُ.
فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ: فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَتَنَحَّى لَهُ الرَّابِعَةَ فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ
دَعَاهُ فَقَالَ «هَلْ بِكَ جُنُونٌ»؟ قَالَ: لاَ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ» وَكَانَ قَدْ أُحْصِنَ.
[الحديث 571 - أطرافه في: 6815، 685، 7167] .

وبه قال: ( حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: ( أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة ( عن الزهري) محمد بن مسلم أنه ( قال: أخبرني) بالإفراد ( أبو سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف ( وسعيد بن المسيب أن أبا هريرة) -رضي الله عنه- ( قال: أتى رجل من أسلم) اسمه ماعز وأسلم قبيلة ( رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو في المسجد) الواو للحال ( فناداه فقال: يا رسول الله إن الآخر) بفتح الهمزة المقصورة وكسر الخاء المعجمة قال عياض: ومدّ الهمزة خطأ وكذا فتح الخاء أي المتأخر عن السعادة المدبر أو الأرذل أو اللئيم ( قد زنى يعني نفسه فأعرض) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( عنه فتنحى لشق وجهه الذي أعرض قبله) بكسر القاف وفتح الموحدة جهته قال الخطابي: تنحّى تفعّل من نحا إذا قصد أي قصد الجهة التي إليها وجهه ونحا نحوها ( فقال: يا رسول الله إن الآخر قد زنى فأعرض عنه فتنحى لشق وجهه الذي) ولابن عساكر لشقه الذي ( أعرض قبله فقال له ذلك) : إن الآخر قد زنى ( فأعرض عنه فتنحى) الرجل ( له الرابعة فلما شهد على نفسه) بالزنا ( أربع شهادات دعاه فقال) له:
( هل بك جنون) ؟ قال النووي: إنما قال هل بك جنون ليحقق حاله فإن الغالب أن الإنسان لا يصرّ على إقرار ما يقتضي هلاكه، وفيه إشارة إلى أن إقرار المجنون باطل ( قال: لا) ما بي جنون ( فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: اذهبوا به) الباء للتعدية أو للحال أي اذهبوا مصاحبين له ( فارجموه.
وكان قد أحصن)
بضم الهمزة وكسر الصاد.




[ قــ :4989 ... غــ : 57 ]
- وَعَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيَّ قَالَ: كُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ فَرَجَمْنَاهُ بِالْمُصَلَّى بِالْمَدِينَةِ فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ، جَمَزَ حَتَّى أَدْرَكْنَاهُ بِالْحَرَّةِ فَرَجَمْنَاهُ حَتَّى مَاتَ.

( وعن الزهري) عطف على قوله في السند السابق شعيب عن الزهري إلى آخره أنه ( قال: أخبرني) بالإفراد، ولأبي ذر وابن عساكر: فأخبرني بالفاء والإفراد ( من سمع جابر بن عبد الله الأنصاري) أبهم الراوي عنه فيحتمل أنه أبو سلمة الذي روى عنه أولًا وأن يكون غيره روى عنه ( قال: كنت فيمن رجمه فرجمناه بالمصلى بالمدينة) فيه تقديم وتأخير أي فرجمناه بالمصلى فكنت فيمن رجمه أو يقدر فكنت فيمن أراد حضور رجمه فرجمناه ( فلما أذلقته الحجارة) أي أقلقته وأوجعته وجواب لما قوله ( جمز) أسرع هاربًا من القتل ( حتى أدركناه بالحرة فرجمناه حتى مات) وزاد أبو داود والحاكم في حديث نعيم أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "هلاّ تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه"، وهو حجة للشافعي ومن وافقه أن الهارب من الرجم إذا كان بالإقرار يكف عنه في الحال فإن رجع سقط عنه الحد وإلا حُدَّ.

وحديث الباب هذا أخرجه مسلم في الحدود والنسائي في الرجم.