فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب في القدر

كتاب القدر
( كتاب القدر) زاد أبو ذر عن المستملي فقال: باب بالتنوين في القدر وهو بفتح القاف والدال المهملة وقد تسكن.
قال الراغب فيما رأيته في فتوح الغيب: القدر هو التقدير والقضاء هو التفصيل والقطع فالقضاء أخص من القدر لأن الفصل بين التقدير فالقدر كالأساس والقضاء هو التفصيل والقطع وذكر بعضهم أن القدر بمنزلة المعدّ للكيل والقضاء بمنزلة الكيل، ولهذا لما قال أبو عبيدة لعمر -رضي الله عنه- لما أراد الفرار من الطاعون بالشأم أتفرّ من القضاء؟ قال: أفرّ من قضاء الله إلى قدر الله تنبيهًا على أن القدر لم يكن قضاء فمرجوّ أن يدفعه الله فإذا قضى فلا مدفع له ويشهد لذلك قوله تعالى: { وكان أمرًا مقضيًّا} [مريم: 21] { وكان على ربك حتمًا مقضيًّا} [مريم: 71] تنبيهًا على أنه صار بحيث لا يمكن تلافيه.
ويذكر أن عبد الله بن طاهر دعا الحسين بن الفضل فقال: أشكل عليّ قوله تعالى: { كل يوم هو في شأن} [الرحمن: 29] وقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "جف القلم بما أنت لاقيه".
وقال أهل السنة: إن الله تعالى قدّر الأشياء أي علم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها ثم أوجد منها ما سبق في علمه فلا محدث في العالم العلوي والسفلي إلا وهو صادر عن علمه تعالى وقدرته وإرادته دون خلقه، وأن الخلق ليس لهم فيها إلا نوع اكتساب ومحاولة ونسبة وإضافة وأن ذلك كله إنما حصل لهم بتيسير الله وبقدرة الله وإلهامه لا إله إلا هو ولا خالق غيره كما نص عليه القرآن والسُّنّة.
وقال ابن السمعاني: سبيل معرفة هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة دون محض القياس والعقل فمن عدل عن التوقيف فيه ضل وتاه في بحار الحيرة ولم يبلغ شفاء ولا ما يطمئن به القلب، لأن القدر سرّ من أسرار الله تعالى اختص العليم الخبير به وضرب دونه الأستار وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم لما علمه من الحكمة فلم يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب قيل إن القدر ينكشف لهم إذا دخلوا الجنة ولا ينكشف قبل دخولها.


باب في القدر

[ قــ :6249 ... غــ : 6594 ]
- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَنْبَأَنِى سُلَيْمَانُ الأَعْمَشُ قَالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهْوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ قَالَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ فِى بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعٍ: بِرِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَشَقِىٌّ، أَوْ سَعِيدٌ، فَوَاللَّهِ إِنَّ أَحَدَكُمْ أَوِ الرَّجُلَ يَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا غَيْرُ بَاعٍ أَوْ ذِرَاعٍ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا غَيْرُ ذِرَاعٍ، أَوْ ذِرَاعَيْنِ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا».
قَالَ آدَمُ: إِلاَّ ذِرَاعٌ.

وبه قال: ( حدّثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك) الطيالسي قال: ( حدّثنا شعبة) بن الحجاج قال: ( أنبأني) بالإفراد من الأنباء ( سليمان الأعمش) الكوفي ( قال: سمعت زيد بن وهب) الجهني أبًا سليمان الكوفي مخضرم ( عن عبد الله) بن مسعود -رضي الله عنه- أنه ( قال: حدّثنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو الصادق) المخبر بالقول الحق ( المصدوق) الذي صدقه الله وعده، والجملة كما قال في شرح المشكاة الأولى أن تكون اعتراضية لا حالية ليعم الأحوال كلها وأن يكون من عادته ودأبه ذلك فما أحسن موقعه هنا ( قال) :
( إن أحدكم) في اليونينية مضبوطة أن بفتح الهمزة وقبلها قال مخرجة مصحح عليها فالله أعلم هل الضبط قبل تخريج قال أم بعده؟ كذا رأيته في الفرع كأصله.
وقال أبو البقاء.
لا يجوز إلا الفتح لأنه مفعول حدّثنا، فلو كسر لكان منقطعًا عن قوله حدثنا وجزم النووي في شرح مسلم بأنه بالكسر على الحكاية، وحجة أبي البقاء أن الكسر على خلاف الظاهر ولا يجوز العدول عنه إلا لمانع ولو جاز من غير أن يثبت به النقل لجاز في مثل قوله تعالى { أيعدكم أنكم إذا متم} [المؤمنون: 35] وقد اتفق القراء على أنها بالفتح لكن تعقبه الخويي بأن الرواية جاءت بالفتح والكسر فلا معنى للرد قال: ولو لم تجيء به الرواية لما امتنع جوازًا على طريق الرواية بالمعنى.
وأجاب عن الآية بأن الوعد مضمون الجملة وليس بخصوص لفظها، فلذلك اتفقوا على الفتح، وأما هنا فالتحديث يجوز أن يكون بلفظه وبمعناه اهـ.
من فتح الباري، وهذا مبني على حذف قال وعلى تقدير حذفها في الرواية فهي مقدرة إذ لا يتم المعنى بدونها، ولأبي ذر عن الكشميهني إن خلق أحدكم أي ما يخلق منه أحدكم ( يجمع) بضم أوّله وسكون الجيم وفتح الميم أي يحزن ( في بطن أمه) .
قال في النهاية: ويجوز أن يريد بالجمع مكث النطفة في الرحم أي تمكث النطفة في الرحم ( أربعين يومًا) تتخمر فيها حتى تتهيأ للخلق.

وقال القرطبي أبو العباس المراد أن المنيّ يقع في الرحم حين انزعاجه بالقوّة الشهوانية الدافعة مبثوبًا متفرفًا فيجمعه في محل الولادة من الرحم، وفي رواية آدم في التوحيد: إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا أو أربعين ليلة بالشك، وزاد أبو عوانة من رواية وهب بن جرير عن شعبة نطفة بين قوله أحدكم وبين قوله أربعين فبين أن الذي يجمع هو النطفة والنطفة المني فإذا لاقى مني الرجل مني المرأة بالجماع وأراد الله تعالى أن يخلف من ذلك جنينًا هيأ أسباب ذلك لأن في رحم المرأة قوّتين قوّة انبساط عند مني الرجل حتى ينتشر في جسدها وقوّة انقباض بحيث لا يسيل من فرجها مع كونه منكوسًا ومع كون المني ثقيلاً بطبعه، وفي مني الرجل قوّة الفعل، وفي مني المرأة قوّة الانفعال فعند الامتزاج يصير مني الرجل كالأنفحة للبن، وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره من رواية الأعمش عن خيثمة بن عبد الرَّحمن عن ابن مسعود أن النطفة إذا وقعت في الرحم فأراد الله أن يخلق منها بشرًا طارت في جسد المرأة تحت كل ظفر وشعر ثم تمكث أربعين يومًا ثم تنزل دمًا في الرحم.
قال في شرح المشكاة: والصحابة أعلم الناس بتفسير ما سمعوه وأحقهم بتأويله وأولاهم بالصدق وأكثرهم احتياطًا فليس لمن بعدهم أن يردّ عليهم اهـ.

وفيه أن ابتداء جمعه من ابتداء الأربعين، وعند أبي عوانة اثنتان وأربعون، وعند الفريابي من طريق محمد بن مسلم الطائفي عن عمرو بن الحارث خمسة وأربعين ليلة.
( ثم يكون علقة) دمًا غليظًا جامدًا تحوّل من النطفة البيضاء إلى العلقة الحمراء وسمي بذلك للرطوبة التي فيه وتعلقه ما مرّ به ( مثل ذلك) الزمان وهو الأربعون ( ثم يكون) يصير ( مضغة) بضم الميم وسكون المعجمة قطعة لحم قدر ما يمضع ( مثل ذلك) الزمان وهو أربعون ( ثم) في الطور الرابع حين يتكامل بنيانه وتتشكل أعضاؤه ( يبعث الله ملكًا) موكلاً بالرحم، وعند الفريابي من رواية أبي الزبير أتى ملك الأرحام ولأبي ذر عن الكشميهني يبعث بضم أوّله مبنيًّا للمفعول إليه ملك لتصويره وتخليقه وكتابة ما يتعلق به فينفخ فيه الروح كما أمر بذلك، وفي حديث علي عند ابن أبي حاتم إذا تمت النطفة أربعة أشهر بعث الله إليها ملكًا فينفخ فيها الروح وإسناد النفخ إلى الملك مجاز عقلي لأن ذلك من أفعال الله كالخلق ( فيؤمر بأربع) بالتذكير، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: بأربعة والمعدود إذا أبهم جاز تذكيره وتأنيثه أي يؤمر بكتابة أربعة أشياء من أحوال الجنين ( برزقه) أي غذائه حلالاً أو حرامًا قليلاً أو كثيرًا وكل ما ساقه الله تعالى إليه فيتناول العلم ونحوه ( وأجله) طويل أو قصير ( وشقي) باعتبار ما يختم له ( أو سعيد) كذلك وكل من اللفظين مرفوع مصحح عليه بالفرع كأصله خبر مبتدأ محذوف ويجوز الجر، وتعقب العيني الرفع فقال ليس كذلك لأنه معطوف على المجرور السابق، وقال في شرح المشكاة: كان حق الظاهر أن يقول تكتب سعادته وشقاوته فعدل عن ذلك لأن الكلام مسوق إليهما والتفصيل وارد عليهما.

( فوالله إن أحدكم أو الرجل) بالشك من الراوي ( يعمل بعمل أهل النار) من المعاصي والباء
في بعمل زائدة للتأكيد أي يعمل عمل أهل النار أو ضمن معنى يعمل معنى يتلبس أن يتلبس بعمل أهل النار ( حتى ما يكون) نصب بحتى وما نافية غير مانعة لها من العمل وجوز بعضهم كون حتى ابتدائية فيكون رفع وهو الذي في اليونينية ( بينه وبينها غير باع أو ذراع) برفع غير ( فيسبق عليه) ما تضمنه ( الكتاب) بفاء التعقيب المقتضية لعدم المهلة وضمن يسبق معنى يغلب وعليه في موضع نصب على الحال أي يسبق المكتوب واقعًا عليه ( فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) والمعنى أنه يتعارض عمله في اقتضاء الشقاوة والمكتوب في اقتضاء السعادة فيتحقق مقتضى المكتوب فعبر عن ذلك بالسبق لأن السابق يحصل مراده دون المسبوق ( وإن الرجل) ولم يقل وإن أحدكم أو الرجل على الشك كما سبق ( ليعمل) بلام التأكيد ( بعمل أهل الجنة) من الطاعات ( حتى ما يكون بينه وبينها) أي الجنة ( غير ذراع) برفع غير ( أو ذراعين) ولأبي ذر أو باع بدل ذراعين والباع قدر مد اليدين "فيسبق عليه الكتاب" أي مكتوب الله وهو القضاء الأزلي ( فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها قال) ولأبوي ذر والوقت وقال ( آدم) بن أبي إياس مما وصله في التوحيد ( إلا ذراع) فلم يشك، ولأبي ذر عن المستملي والحموي: إلا باع بدل ذراع والتعبير بالذراع تمثيل بقرب حاله من الموت فيحال بينه وبين المقصود بمقدار ذراع أو باع من المسافة وضابط ذلك الحسي الغرغرة التي جعلت علامة لعدم قبول التوبة، وقد ذكر في هذا الحديث أهل الخير صرفًا إلى الموت لا الذين خلطوا وماتوا على الإسلام فلم يقصد تعميم أحوال المكلفين بل أورده لبيان أن الاعتبار بالخاتمة ختم الله أعمالنا بالصالحات بمنه وكرمه.

وفي مسلم من حديث أبي هريرة: إن الرجل ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل النار ثم يختم له بعمل أهل الجنة، وعند أحمد من وجه آخر عن أبي هريرة سبعين سنة، وعنده أيضًا عن عائشة مرفوعًا: إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة وهو مكتوب في الكتاب الأول من أهل النار فإذا كان قبل موته تحوّل فعمل عمل أهل النار فمات فدخلها الحديث، وفيه أن في التقدير الأعمال ما هو سابق ولاحق فالسابق ما في علم الله تعالى واللاحق ما يقدر على الجنين في بطن أمه كما في هذا الحديث وهذا هو الذي يقبل النسخ.




[ قــ :650 ... غــ : 6595 ]
- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «وَكَّلَ اللَّهُ بِالرَّحِمِ مَلَكًا فَيَقُولُ: أَىْ رَبِّ نُطْفَةٌ؟ أَىْ رَبِّ عَلَقَةٌ؟ أَىْ رَبِّ مُضْغَةٌ؟ فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِىَ خَلْقَهَا قَالَ: أَىْ رَبِّ ذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى أَشَقِىٌّ أَمْ سَعِيدٌ، فَمَا الرِّزْقُ فَمَا الأَجَلُ؟ فَيُكْتَبُ كَذَلِكَ فِى بَطْنِ أُمِّهِ».

وبه قال: ( حدّثنا سليمان بن حرب) الإمام أبو أيوب الواشحي البصري قاضي مكة قال: ( حدّثنا حماد) هو ابن زيد ( عن عبيد الله) بضم العين ( ابن أبي بكر بن أنس عن) جده ( أنس بن مالك -رضي الله عنه-) سقط لأبي ذر ابن أنس وابن مالك ( عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه ( قال) :
( وكل الله) عز وجل بتشديد الكاف ( بالرحم ملكًا) وفي الحديث السابق ثم يبعث الله ملكًا ( فيقول) عند نزول النطفة في الرحم التماسًا لإتمام الخلقة ( أي) بسكون الياء أي يا ( رب) هذه ( نطفة أي رب) هذه ( علقة أي رب) هذه ( مضغة) ويجوز النصب فيها على إضمار فعل أي خلقت أو صار، والمراد أنه يقول كل كلمة من ذلك الوقت الذي يصير فيه كذلك، فبين قوله أي رب نطفة وقوله علقة أربعون يومًا كقوله يا رب مضغة لا في وقت واحد إذ لا تكون النطفة علقة مضعة في ساعة واحدة.

وحديث ابن مسعود السابق يدل على أن الجنين يتقلب في مائة وعشرين يومًا في ثلاثة أطوار كل طور منها في أربعين ثم بعد تكملتها ينفخ فيه الروح، وقد ذكر الله تعالى هذه الأطوار الثلاثة من غير تقييد بمدة في سورة الحج، وزاد في سورة المؤمنين بعد المضعة { فخلقنا المضعة عظامًا فكسونا العظام لحمًا} [المؤمنون: 14] الآية ويؤخذ منها، ومن حديث الياب أن تصير المضعة عظامًا بعد نفخ الروح.

( فإذا أراد الله) عز وجل ( أن يقضي خلقها) أي يأذن فيها أو يتمها ( قال: أي) ولأبوي ذر والوقت يا ( رب ذكر) ولأبي ذر أذكر ( أم أنثى) وفي حديث حذيفة بن أسيد عند مسلم إذا مر بالنطفة ثلاث وأربعون وفي نسخة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكًا فصوّرها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظمها ثم قال: أذكر أم أنثى فيقضي ربك ما يشاء ويكتب الملك، وعند الفريابي عن حذيفة بن أسيد إذا وقعت النطفة في الرحم ثم استقرت أربعين ليلة قال: فيجيء ملك الرحم فيدخل فيصور له عظمه ولحمه وشعره وبشره وسمعه وبصره ثم يقول: أي رب ذكر أو أنثى الحديث وهذا كما قال عياض: ليس على ظاهره لأن التصوير إنما يقع في آخر الأربعين الثالثة، فالمعنى في قوله فصوّرها كتب الله ذلك ثم يفعله بعد بدليل قوله بعد ذلك أذكر أم أنثى ( أشقي أم سعيد فما الرزق فما الأجل فيكتب) بصيغة المبني للمفعول أي فيكتب الملك ( كذلك) المذكور من الشقاء والسعادة والرزق والأوجل على جبهته أو رأسه مثلاً وهو ( في بطن أمه) .

وفي الحديث أن خلق السمع والبصر يقع والجنين في بطن أمه وهو محمول جزمًا على الأعضاء ثم على القوة الباصرة والسامعة لأنها مودعة فيهما وأما الإدراك، فالذي يترجح أنه يتوقف على زوال الحجاب المانع.
وقال المظهري إن الله تعالى يحوّل الإنسان في بطن أمه حالة بعد حالة مع أنه تعالى قادر على أن يخلقه في لمحة وذلك أن في التحويل فوائد وعبرًا منها أنه لو خلقه دفعة لشق على الأم لأنها ما تكن معتادة لذلك فجعل أولاً نطفة لتعتاد بها مدة ثم علقة مدة وهلم جرا إلى الولادة ومنها إظهار قدرة الله تعالى ونعمته ليعبدوه ويشكروا له حيث قلبهم من تلك الأطوار إلى كونهم إنسانًا حسن الصورة متحليًا العقل والشهامة متزينًا بالفهم والفطانة، ومنها إرشاد الناس وتنبيههم على كمال قدرته على الحشر والنشر لأن من قدر على خلق الإنسان من ماء مهين ثم من علقة
ومضعة مهيأة لنفخ الروح فيه يقدر على صيرورته ترابًا ونفخ الروح فيه وحشره في المحشر للحساب والجزاء.