فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل مما لم ينزل عليه الوحي، فيقول: «لا أدري»، أو لم يجب حتى ينزل عليه الوحي، ولم يقل برأي ولا بقياس

باب مَا كَانَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُسْأَلُ مِمَّا لَمْ يُنْزَلْ عَلَيْهِ الْوَحْىُ فَيَقُولُ: «لاَ أَدْرِى» أَوْ لَمْ يُجِبْ حَتَّى يُنْزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْىُ وَلَمْ يَقُلْ بِرَأْىٍ وَلاَ قِيَاسٍ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: { بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] .

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: سُئِلَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الرُّوحِ فَسَكَتَ حَتَّى نَزَلَتِ الآيَةُ.

( باب ما كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يسأل) بضم أوله مبنيًّا للمفعول ( مما لم ينزل) مبني للمفعول أيضًا ( عليه الوحي) قرآنًا أو غيره ( فيقول: لا أدري) كما جاء في أحاديث تأتي إن شاء الله تعالى لكنها ليست على شرط المؤلّف ( أو لم يجب) عن ذلك ( حتى ينزل) بضم أوله وفتح ثالثه ( عليه الوحي) بالرفع ببيان ذلك فيجب حينئذ ولأبي ذر عن المستملي حتى ينزل الله عليه الوحي بالنصب على المفعولية ( ولم يقل برأي ولا قياس) من عطف المرادف وقيل الرأي التفكر أي لم يقل بمقتضى العقل ولا بالقياس وقيل الرأي أعم لشموله مثل الاستحسان ( لقوله تعالى: { بما أراك الله} ) أي في قوله تعالى: { لتحكم بين الناس بما أراك الله} [النساء: 105] أي بما علمك الله.

( وقال ابن مسعود) : عبد الله ( سئل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الروح فسكت حتى نزلت الآية) { ويسألونك عن الروح} [الإسراء: 85] وقوله: الآية ثابت لأبي ذر عن الكشميهني.


[ قــ :6918 ... غــ : 7309 ]
- حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ الْمُنْكَدِرِ يَقُولُ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: مَرِضْتُ فَجَاءَنِى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعُودُنِى وَأَبُو بَكْرٍ وَهُمَا مَاشِيَانِ، فَأَتَانِى وَقَدْ أُغْمِىَ عَلَىَّ، فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ صَبَّ وَضُوءَهُ عَلَىَّ فَأَفَقْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ فَقُلْتُ: أَىْ رَسُولَ اللَّهِ - كَيْفَ أَقْضِى فِى مَالِى كَيْفَ أَصْنَعُ فِى مَالِى؟ قَالَ: فَمَا أَجَابَنِى بِشَىْءٍ حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ.

وبه قال: ( حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: ( حدّثنا سفيان) بن عيينة ( قال: سمعت ابن المنكدر) محمدًا ( يقول: سمعت جابر بن عبد الله) الأنصاري -رضي الله عنهما- ( يقول: مرضت فجاءني رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعودني وأبو بكر) في بني سلمة ( وهما ماشيان فأتاني وقد أغمي) أي غشي ( علي) والواو للحال ( فتوضأ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثم صب وضوءه) بفتح الواو أي ماء وضوئه ( علىّ فأفقت) من الإغماء ( فقلت: يا رسول الله وربما قال سفيان) بن عيينة ( فقلت: أي رسول الله كيف أقضي في مالي كيف أصنع في مالي؟ قال) جابر ( فما أجابني) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( بشيء حتى نزلت آية الميراث) وفي النساء فنزلت: { يوصيكم الله في أولادكم} [النساء: 11] وسبق هناك أن الدمياطي قال: إنه وهم وأن الذي في جابر: { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} [النساء: 76] كما رواه مسلم وفيه زيادة بحث فأطلبه، ثم وليس في الحديث المعلق ولا الموصول دليل لقول المصنف في الترجمة لا أدري.
وقال في الكواكب: في قوله لا أدري حزازة إذ ليس في الحديث ما يدل عليه ولم يثبت عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذلك.

قال في فتح الباري: وهو تساهل شديد في الإقدام على نفي الثبوت، والظاهر أنه أشار في الترجمة إلى ما ورد في ذلك مما لم يثبت عنده منه شيء على شرطه وإن كان يصلح للحجة على عادته في أمثال ذلك.
وفي حديث ابن عمر عند ابن حبان جاء رجل إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: أي البقاع خير؟ قال: "لا أدري" فأتاه جبريل فسأله فقال: لا أدري.
فقال: سل ربك فانتفض جبريل
انتفاضة الحديث ... وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عند الدارقطني والحاكم أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "ما أدري الحدود كفارة لأهلها أم لا".
وعن المهلب إنما سكت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في أشياء معضلة ليس لها أصل في الشريعة فلا بدّ فيها من الاطّلاع على الوحي، وإلاّ فقد شرع -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأمته القياس وأعلمهم كيفية الاستنباط في مسائل لها أصول ومعان ليريهم كيف يصنعون فيما لا نص فيه، والقياس هو تشبيه ما لا حكم فيه بما فيه حكم في المعنى، وقد شبه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الحمر بالخيل فقال: "ما أنزل الله عليّ فيها شيئًا غير هذه الآية الفاذة الجامعة { فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرًّا يره} [الزلزلة: 7، 8] " وقال للمرأة التي أخبرته أن أباها لم يحج: "أرأيت لو كان على أبيك دين كنت قاضيته فالله أحق بالقضاء".
فهذا هو عين القياس، وتعقبه السفاقسي بأن البخاري لم يرد النفي المطلق وإنما أراد أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ترك الكلام في أشياء، وأجاب بالرأي في أشياء، وقد بوّب لكل ذلك بما ورد فيه وأشار إلى قوله بعد بابين باب من شبه أصلاً معلومًا بأصل مبين.

والحديث سبق في تفسير سورة النساء والله أعلم.