فهرس الكتاب

فتح الباري لابن حجر - باب من رغب عن المدينة

( قَولُهُ بَابُ مَنْ رَغِبَ عَنِ الْمَدِينَةِ)
أَيْ فَهُوَ مَذْمُومٌ أَوْ بَابُ حُكْمِ مَنْ رَغِبَ عَنْهَا



[ قــ :1788 ... غــ :1874] .

     قَوْلُهُ  تَتْرُكُونَ الْمَدِينَةَ كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِتَاءِ الْخِطَابِ وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ غَيْرُ الْمُخَاطَبِينَ لَكِنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ أَوْ مِنْ نَسْلِ الْمُخَاطَبِينَ أَوْ مِنْ نَوْعِهِمْ وَرُوِيَ يَتْرُكُونَ بِتَحْتَانِيَّةٍ وَرَجَّحَهُ الْقُرْطُبِيُّ .

     قَوْلُهُ  عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ أَيْ عَلَى أَحْسَنِ حَالٍ كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ قَالَ الْقُرْطُبِيّ تبعا لعياض وَقد وُجِدَ ذَلِكَ حَيْثُ صَارَتْ مَعْدِنَ الْخِلَافَةِ وَمَقْصِدَ النَّاسِ وَمَلْجَأَهُمْ وَحُمِلَتْ إِلَيْهَا خَيْرَاتُ الْأَرْضِ وَصَارَتْ مِنْ أَعْمَرِ الْبِلَادِ فَلَمَّا انْتَقَلَتِ الْخِلَافَةُ عَنْهَا إِلَى الشَّامِ ثُمَّ إِلَى الْعِرَاقِ وَتَغَلَّبَتْ عَلَيْهَا الْأَعْرَابُ تَعَاوَرَتْهَا الْفِتَنُ وَخَلَتْ مِنْ أَهْلِهَا فَقَصَدَتْهَا عَوَافِي الطَّيْرِ وَالسِّبَاعِ وَالْعَوَافِي جَمْعُ عَافِيَةٍ وَهِيَ الَّتِي تَطْلُبُ أَقْوَاتِهَا وَيُقَالُ لِلذَّكَرِ عَافٍ قَالَ بن الْجَوْزِيّ اجْتمع فِي العوافى شيآن أَحَدُهُمَا أَنَّهَا طَالِبَةٌ لِأَقْوَاتِهَا مِنْ قَوْلِكَ عَفَوْتُ فُلَانًا أَعْفُوهُ فَأَنَا عَافٍ وَالْجَمْعُ عُفَاةٌ أَيْ أَتَيْتُ أَطْلُبُ مَعْرُوفَهُ وَالثَّانِي مِنَ الْعَفَاءِ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الْخَالِي الَّذِي لَا أَنِيسَ بِهِ فَإِنَّ الطَّيْرَ وَالْوَحْشَ تَقْصِدُهُ لِأَمْنِهَا عَلَى نَفْسِهَا فِيهِ.

     وَقَالَ  النَّوَوِيُّ الْمُخْتَارُ أَنَّ هَذَا التَّرْكَ يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ وَيُؤَيِّدُهُ قِصَّةُ الرَّاعِيَيْنِ فَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ ثُمَّ يُحْشَرُ رَاعِيَانِ وَفِي الْبُخَارِيِّ أَنَّهُمَا آخِرُ مَنْ يُحْشَرُ.

قُلْتُ وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَى مَالِكٌ عَن بن حَمَاسٍ بِمُهْمَلَتَيْنِ وَتَخْفِيفٍ عَنْ عَمِّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ لَتَتْرُكُنَّ الْمَدِينَةَ عَلَى أَحْسَنِ مَا كَانَتْ حَتَّى يَدْخُلَ الذِّئْبُ فَيَعْوِيَ عَلَى بَعْضِ سَوَارِي الْمَسْجِدِ أَوْ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالُوا فَلِمَنْ تَكُونُ ثِمَارُهَا قَالَ لِلْعَوَافِي الطَّيْرِ وَالسِّبَاعِ أَخْرَجَهُ مَعْنُ بْنُ عِيسَى فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ مَالِكٍ وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الثِّقَاتِ خَارِجَ الْمُوَطَّأِ وَيَشْهَدُ لَهُ أَيْضًا مَا رَوَى أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ مِحْجَنِ بْنِ الْأَدْرَعِ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ بَعَثَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَاجَةٍ ثُمَّ لَقِيَنِي وَأَنَا خَارِجٌ مِنْ بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ فَأَخَذَ بِيَدِي حَتَّى أَتَيْنَا أُحُدًا ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ وَيْلَ أُمِّهَا قَرْيَةٌ يَوْمَ يَدَعُهَا أَهْلُهَا كَأَيْنَعِ مَا يَكُونُ.

قُلْتُ يَا رَسُول الله من يَأْكُل ثَمَرهَا قَالَ عَافِيَةُ الطَّيْرِ وَالسِّبَاعِ وَرَوَى عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْنَا فَقَالَ أَمَا وَاللَّهِ لَيَدَعَنَّهَا أَهْلُهَا مُذَلَّلَةً أَرْبَعِينَ عَامًا لِلْعَوَافِي أَتَدْرُونَ مَا الْعَوَافِي الطَّيْرُ وَالسِّبَاعُ.

قُلْتُ وَهَذَا لَمْ يَقَعْ قَطْعًا.

     وَقَالَ  الْمُهَلَّبُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَدِينَةَ تُسْكَنُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِنْ خَلَتْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِقَصْدِ الرَّاعِيَيْنِ بِغَنَمِهِمَا إِلَى الْمَدِينَةِ .

     قَوْلُهُ  وَآخِرُ مَنْ يُحْشَرُ رَاعِيَانِ مِنْ مُزَيْنَةَ هَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَدِيثًا آخَرَ مُسْتَقِلًّا لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالَّذِي قَبْلَهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَتِمَّةِ الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ وَعَلَى هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ يَتَرَتَّبُ الِاخْتِلَافُ الَّذِي حَكَيْتُهُ عَنِ الْقُرْطُبِيِّ وَالنَّوَوِيِّ وَالثَّانِي أَظْهَرُ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ .

     قَوْلُهُ  يَنْعِقَانِ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا قَافٌ النَّعِيقُ زَجْرُ الْغَنَمِ يُقَالُ نَعَقَ يَنْعِقُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِهَا نَعِيقًا وَنُعَاقًا وَنَعَقَانًا إِذَا صَاحَ بِالْغَنَمِ وَأَغْرَبَ الدَّاوُدِيُّ فَقَالَ مَعْنَاهُ يَطْلُبُ الْكَلَأَ وَكَأَنَّهُ فَسَّرَهُ بِالْمَقْصُودِ مِنَ الزَّجْرِ لِأَنَّهُ يَزْجُرُهَا عَنِ الْمَرْعَى الْوَبِيلِ إِلَى الْمَرْعَى الْوَسِيمِ .

     قَوْلُهُ  فَيَجِدَانِهَا وُحُوشًا أَوْ يَجِدَانِهَا ذَاتَ وَحْشٍ أَوْ يَجِدَانِ أَهْلَهَا قَدْ صَارُوا وُحُوشًا وَهَذَا عَلَى أَنَّ الرِّوَايَةَ بِفَتْحِ الْوَاوِ أَيْ يَجِدَانِهَا خَالِيَةً وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَيَجِدَانِهَا وَحْشًا أَيْ خَالِيَةً لَيْسَ بِهَا أَحَدٌ وَالْوَحْشُ مِنَ الْأَرْضِ الْخَلَاءُ أَوْ كَثْرَةُ الْوَحْشِ لَمَّا خَلَتْ مِنْ سُكَّانِهَا قَالَ النَّوَوِيُّ الصَّحِيحُ أَنَّ مَعْنَاهُ يَجِدَانِهَا ذَاتَ وُحُوشٍ قَالَ وَقَدْ يَكُونُ وَحْشًا بِمَعْنَى وُحُوشٍ وَأَصْلُ الْوَحْشِ كُلُّ شَيْءٍ تَوَحَّشَ مِنَ الْحَيَوَانِ وَجَمْعُهُ وُحُوشٌ وَقَدْ يُعَبَّرُ بِوَاحِدِهِ عَن جمعه وَحكى عَن بن الْمُرَابِطِ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ غَنَمَ الرَّاعِيَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ تَصِيرُ وُحُوشًا إِمَّا بِأَنْ تَنْقَلِبَ ذَاتُهَا وَإِمَّا أَنْ تَتَوَحَّشَ وَتَنْفِرَ مِنْهُمَا وَعَلَى هَذَا فَالضَّمِيرُ فِي يَجِدَانِهَا يَعُودُ عَلَى الْغَنَمِ وَالظَّاهِرُ خِلَافُهُ قَالَ النَّوَوِيُّ الصَّوَابُ الْأَوَّلُ.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيُّ الْقُدْرَةُ صَالِحَةٌ لِذَلِكَ انْتَهَى وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ أَنَّهُمَا يَخِرَّانِ عَلَى وُجُوهِهِمَا إِذَا وَصَلَا إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ وَذَلِكَ قَبْلَ دُخُولِهِمَا الْمَدِينَةَ بِلَا شَكٍّ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا وَجَدَا التَّوَحُّشَ الْمَذْكُورَ قَبْلَ دُخُولِ الْمَدِينَةِ فَيَقْوَى أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى غَنَمِهِمَا وَكَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عَلَامَاتِ قِيَامِ السَّاعَةِ وَيُوَضِّحُ هَذَا رِوَايَةُ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَشْجَعَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفًا قَالَ آخِرُ مَنْ يُحْشَرُ رَجُلَانِ رَجُلٌ مِنْ مُزَيْنَةَ وَآخَرُ مِنْ جُهَيْنَةَ فَيَقُولَانِ أَيْنَ النَّاسُ فَيَأْتِيَانِ الْمَدِينَةَ فَلَا يَرَيَانِ إِلَّا الثَّعَالِبَ فَيَنْزِلُ إِلَيْهِمَا مَلَكَانِ فَيَسْحَبَانِهِمَا عَلَى وُجُوهِهِمَا حَتَّى يُلْحِقَاهُمَا بِالنَّاسِ .

     قَوْلُهُ  وَآخِرُ مَنْ يُحْشَرُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ ثُمَّ يَخْرُجُ رَاعِيَانِ مِنْ مُزَيْنَةَ يُرِيدَانِ الْمَدِينَةَ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ حَشْرَهُمَا وَإِنَّمَا ذَكَرَ مُقَدِّمَتَهُ لِأَنَّ الْحَشْرَ إِنَّمَا يَقَعُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَذَكَرَ سَبَبَ مَوْتِهِمَا وَالْحَشْرُ يَعْقُبُهُ وَقَولُهُ عَلَى هَذَا خَرَّا عَلَى وُجُوهِهِمَا أَيْ سَقَطَا مَيِّتَيْنِ أَوِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ خَرَّا عَلَى وُجُوهِهِمَا أَيْ سَقَطَا بِمَنْ أَسْقَطَهُمَا وَهُوَ الْمَلَكُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ شَبَّةَ وَفِي رِوَايَةٍ لِلْعُقَيْلِيِّ أَنَّهُمَا كَانَا يَنْزِلَانِ بِجَبَلِ وَرْقَانَ وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ أَنَّهُمَا يَفْقِدَانِ النَّاسَ فَيَقُولَانِ نَنْطَلِقُ إِلَى بَنِي فُلَانٍ فَيَأْتِيَانِهِمْ فَلَا يَجِدَانِ أَحَدًا فَيَقُولَانِ نَنْطَلِقُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَيَنْطَلِقَانِ فَلَا يَجِدَانِ بِهَا أَحَدًا فَيَنْطَلِقَانِ إِلَى الْبَقِيعِ فَلَا يَرَيَانِ إِلَّا السِّبَاعَ وَالثَّعَالِبَ وَهَذَا يُوَضِّحُ أَحَدَ الِاحْتِمَالَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَقَدْ روى بن حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ آخِرُ قَرْيَةٍ فِي الْإِسْلَامِ خَرَابًا الْمَدِينَةُ وَهُوَ يُنَاسِبُ كَوْنَ آخِرِ مَنْ يُحْشَرُ يَكُونُ مِنْهَا تَنْبِيه أنكر بن عُمَرَ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ تَعْبِيرَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ خَيْرِ مَا كَانَتْ.

     وَقَالَ  إِنَّ الصَّوَابَ أَعْمَرِ مَا كَانَتْ أَخْرَجَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ مِنْ طَرِيق مُسَاحِقِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ بن عُمَرَ فَجَاءَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَقَالَ لَهُ لِمَ تَرُدُّ عَلَيَّ حَدِيثِي فَوَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنَا وَأَنْتَ فِي بَيْتٍ حِينَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ مِنْهَا أَهْلُهَا خَيْرَ مَا كنت فَقَالَ بن عُمَرَ أَجَلْ وَلَكِنْ لَمْ يَقُلْ خَيْرَ مَا كَانَتْ إِنَّمَا قَالَ أَعْمَرَ مَا كَانَتْ وَلَوْ قَالَ خَيْرَ مَا كَانَتْ لَكَانَ ذَلِكَ وَهُوَ حَيٌّ وَأَصْحَابُهُ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ صَدَقْتَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ لَمَّا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّنْ يُخْرِجُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ مِنَ الْمَدِينَةِ وَلِعُمَرَ بْنِ شَبَّةَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قِيلَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَنْ يُخْرِجُهُمْ قَالَ أُمَرَاءُ السُّوءِ .

     قَوْلُهُ  عَنْ أَبِيهِ هُوَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أَخُوهُ وَفِي الْإِسْنَادِ صَحَابِيٌّ عَنْ صَحَابِيٍّ وَتَابِعِيٌّ عَنْ تَابِعِيٍّ لِأَنَّ هِشَامًا قَدْ لَقِيَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ





[ قــ :1789 ... غــ :1875] .

     قَوْلُهُ  عَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ كَذَا للْأَكْثَر وَرَوَاهُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ كَذَلِكَ.

     وَقَالَ  فِي آخِرِهِ قَالَ عُرْوَةُ ثُمَّ لَقِيتُ سُفْيَانَ بْنَ أَبِي زُهَيْرٍ عِنْدَ مَوْتِهِ فَأَخْبَرَنِي بِهَذَا الْحَدِيثِ وَذَكَرَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى هِشَامٍ اخْتِلَافًا آخَرَ فَقَالَ وُهَيْبٌ وَجَمَاعَةٌ كَمَا قَالَ مَالِكٌ.

     وَقَالَ  بن عُيَيْنَةَ عَنْ هِشَامٍ بِسَنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ الْغَوْثِ.

     وَقَالَ  أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ هِشَامٍ بِسَنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ.

قُلْتُ قَدْ رَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَلَى الصَّوَابِ وَرَوَاهُ أَبُو خَيْثَمَةَ عَنْ جَرِيرٍ فَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ أَبِي قِلَابَةَ كَأَنَّهُ عَرَفَ خَطَأَ جَرِيرٍ فَكَنَّى عَنْهُ وَاسْمُ أَبِي زُهَيْرٍ الْقَرِدُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ وَقِيلَ نُمَيْرٌ وَهُوَ الشَّنُوئِيُّ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَضَمِّ النُّونِ وَبَعْدَ الْوَاوِ هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ وَفِي النَّسَبِ كَذَلِكَ وَقِيلَ بِفَتْحِ النُّونِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَكْسُورَةٌ بِلَا وَاوٍ وَشَنُوءَةُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ نَضْرِ بْنِ الْأَزْدِ وَسُمِّيَ شَنُوءَةَ لِشَنَآنٍ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قومه قَوْله تفتح الْيمن قَالَ بن عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ افْتُتِحَتِ الْيَمَنُ فِي أَيَّامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي أَيَّامِ أَبِي بَكْرٍ وَافْتُتِحَتِ الشَّامُ بَعْدَهَا وَالْعِرَاقُ بَعْدَهَا وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ فَقَدْ وَقَعَ عَلَى وَفْقِ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى تَرْتِيبِهِ وَوَقَعَ تَفَرُّقُ النَّاسِ فِي الْبِلَادِ لِمَا فِيهَا مِنَ السَّعَةِ وَالرَّخَاءِ وَلَوْ صَبَرُوا عَلَى الْإِقَامَةِ بِالْمَدِينَةِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَضْلُ الْمَدِينَةِ عَلَى الْبِلَادِ الْمَذْكُورَةِ وَهُوَ أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْبِقَاعِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ لِلْمَدِينَةِ فَضْلًا عَلَى غَيْرِهَا وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْأَفْضَلِيَّةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ .

     قَوْلُهُ  يَبُسُّونَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَبِكَسْرِهَا مِنْ بس يبس قَالَ بن عَبْدِ الْبَرِّ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى بِكَسْر الْمُوَحدَة وَقيل أَن بن الْقَاسِمِ رَوَاهُ بِضَمِّهَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ مَعْنَاهُ يَسُوقُونَ دَوَابَّهُمْ وَالْبَسُّ سَوْقُ الْإِبِلِ تَقُولُ بِسْ بِسْ عِنْدَ السَّوْقِ وَإِرَادَةِ السُّرْعَةِ.

     وَقَالَ  الدَّاوُدِيُّ مَعْنَاهُ يزجرون دوابهم فيبسون مَا يطؤونه مِنَ الْأَرْضِ مِنْ شِدَّةِ السَّيْرِ فَيَصِيرُ غُبَارًا قَالَ تَعَالَى وبست الْجبَال بسا أَيْ سَالَتْ سَيْلًا وَقِيلَ مَعْنَاهُ سَارَتْ سَيْرًا.

     وَقَالَ  بن الْقَاسِمِ الْبَسُّ الْمُبَالَغَةُ فِي الْفَتِّ وَمِنْهُ قِيلَ لِلدَّقِيقِ الْمَصْنُوعِ بِالدُّهْنِ بَسِيسٌ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ النَّوَوِيُّ.

     وَقَالَ  أَنه ضَعِيف أَو بَاطِل قَالَ بن عَبْدِ الْبَرِّ وَقِيلَ مَعْنَى يَبُسُّونَ يَسْأَلُونَ عَنِ الْبِلَادِ وَيَسْتَقْرِئُونَ أَخْبَارَهَا لِيَسِيرُوا إِلَيْهَا قَالَ وَهَذَا لَا يَكَادُ يَعْرِفُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ يُزَيِّنُونَ لِأَهْلِهِمُ الْبِلَادَ الَّتِي تُفْتَحُ وَيَدْعُونَهُمْ إِلَى سُكْنَاهَا فَيَتَحَمَّلُونَ بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنَ الْمَدِينَةِ رَاحِلِينَ إِلَيْهَا وَيَشْهَدُ لِهَذَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَدْعُو الرَّجُلُ بن عَمِّهِ وَقَرِيبَهُ هَلُمَّ إِلَى الرَّخَاءِ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُم لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَعَلَى هَذَا فَالَّذِينَ يَتَحَمَّلُونَ غَيْرَ الَّذِينَ يَبُسُّونَ كَأَنَّ الَّذِي حَضَرَ الْفَتْحَ أَعْجَبَهُ حُسْنُ الْبَلَدِ وَرَخَاؤُهَا فَدَعَا قَرِيبَهُ إِلَى الْمَجِيءِ إِلَيْهَا لِذَلِكَ فَيَتَحَمَّلُ الْمَدْعُوُّ بِأَهْلِهِ وَأَتْبَاعِهِ قَالَ بن عَبْدِ الْبَرِّ وَرُوِيَ يُبِسُّونَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَانِيهِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ مِنْ أَبَسَّ إِبْسَاسًا وَمَعْنَاهُ يُزَيِّنُونَ لِأَهْلِهِمُ الْبَلَدَ الَّتِي يَقْصِدُونَهَا وَأَصْلُ الْإِبْسَاسِ لِلَّتِي تُحْلَبُ حَتَّى تَدِرَّ بِاللَّبَنِ وَهُوَ أَنْ يُجْرِيَ يَدَهُ عَلَى وَجْهِهَا وَصَفْحَةِ عُنُقِهَا كَأَنَّهُ يُزَيِّنُ لَهَا ذَلِكَ وَيُحَسِّنُهُ لَهَا وَإِلَى هَذَا ذهب بن وهب وَكَذَا رَوَاهُ بن حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ مَالِكٍ يُبِسُّونَ مِنَ الرُّبَاعِيِّ وَفَسَّرَهُ بِنَحْوِ مَا ذَكَرْنَا وَأَنْكَرَ الْأَوَّلَ غَايَةَ الْإِنْكَارِ.

     وَقَالَ  النَّوَوِيُّ الصَّوَابُ أَنَّ مَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ عَمَّنْ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ مُتَحَمِّلًا بِأَهْلِهِ بَاسًّا فِي سَيْرِهِ مُسْرِعًا إِلَى الرَّخَاءِ وَالْأَمْصَارِ المفتتحة قلت وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة بن خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِلَفْظِ تُفْتَحُ الشَّامُ فَيَخْرُجُ النَّاسُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَيْهَا يُبِسُّونَ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ مَا رَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ زَمَانٌ يَنْطَلِقُ النَّاسُ مِنْهَا إِلَى الْأَرْيَافِ يَلْتَمِسُونَ الرَّخَاءَ فَيَجِدُونَ رَخَاءً ثُمَّ يَأْتُونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ إِلَى الرَّخَاءِ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَفِي إِسْنَاده بن لَهِيعَةَ وَلَا بَأْسَ بِهِ فِي الْمُتَابَعَاتِ وَهُوَ يُوَضِّحُ مَا قُلْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَرَوَى أَحْمَدُ فِي أَوَّلِ حَدِيثِ سُفْيَانَ هَذَا قِصَّةً أَخْرَجَهَا مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ فِي مَجْلِسِ اللَّيْثِيِّينَ يَذْكُرُونَ أَنَّ سُفْيَانَ بْنَ أَبِي زُهَيْرٍ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ فَرَسَهُ أَعْيَتْ بِالْعَقِيقِ وَهُوَ فِي بَعْثٍ بَعَثَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَجَعَ إِلَيْهِ يَسْتَحْمِلُهُ فَخَرَجَ مَعَهُ يَبْتَغِي لَهُ بَعِيرًا فَلَمْ يَجِدْهُ إِلَّا عِنْدَ أَبِي جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ الْعَدَوِيِّ فَسَامَهُ لَهُ فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْمٍ لَا أَبِيعُكَهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَكِنْ خُذْهُ فَاحْمِلْ عَلَيْهِ مَنْ شِئْتَ ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بِئْرَ إِهَابٍ قَالَ يُوشِكُ الْبُنْيَانُ أَنْ يَأْتِيَ هَذَا الْمَكَانَ وَيُوشِكُ الشَّامُ أَنْ يُفْتَحَ فَيَأْتِيَهُ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْبَلَدِ فَيُعْجِبَهُمْ رِيعُهُ وَرَخَاؤُهُ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ الْحَدِيثَ .

     قَوْلُهُ  لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَيْ بِفَضْلِهَا مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ وَثَوَابِ الْإِقَامَةِ فِيهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَوْ بِمَعْنَى لَيْتَ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَفِيهِ تَجْهِيلٌ لِمَنْ فَارَقَهَا وَآثَرَ غَيْرَهَا قَالُوا وَالْمُرَادُ بِهِ الْخَارِجُونَ مِنَ الْمَدِينَةِ رَغْبَةً عَنْهَا كَارِهِينَ لَهَا.
وَأَمَّا مَنْ خَرَجَ لِحَاجَةٍ أَوْ تِجَارَةٍ أَوْ جِهَادٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ قَالَ الطِّيبِيُّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ هَذَا الْمَقَامُ أَنْ يُنَزَّلَ مَا لَا يَعْلَمُونَ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ لِتَنْتَفِيَ عَنْهُمُ الْمَعْرِفَةُ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَوْ ذَهَبَ مَعَ ذَلِكَ إِلَى التَّمَنِّي لَكَانَ أَبْلَغَ لِأَنَّ التَّمَنِّيَ طَلَبُ مَا لَا يُمْكِنُ حُصُولُهُ أَيْ لَيْتَهُمْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ تَغْلِيظًا وَتَشْدِيدًا.

     وَقَالَ  الْبَيْضَاوِيُّ الْمَعْنَى أَنَّهُ يُفْتَحُ الْيَمَنُ فَيُعْجِبُ قَوْمًا بِلَادُهَا وَعَيْشُ أَهْلِهَا فَيَحْمِلُهُمْ ذَلِكَ عَلَى المهاجرة إِلَيْهَا بِأَنْفسِهِم واهليهم حَتَّى يَخْرُجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ وَالْحَالُ أَنَّ الْإِقَامَةَ فِي الْمَدِينَةِ خَيْرٌ لَهُمْ لِأَنَّهَا حَرَمُ الرَّسُولِ وَجِوَارُهُ وَمَهْبِطُ الْوَحْيِ وَمَنْزِلُ الْبَرَكَاتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ مَا فِي الْإِقَامَةِ بِهَا مِنَ الْفَوَائِدِ الدِّينِيَّةِ بِالْعَوَائِدِ الْأُخْرَوِيَّةِ الَّتِي يُسْتَحْقَرُ دُونَهَا مَا يَجِدُونَهُ مِنَ الْحُظُوظِ الْفَانِيَةِ الْعَاجِلَةِ بِسَبَبِ الْإِقَامَةِ فِي غَيْرِهَا وَقَوَّاهُ الطِّيبِيُّ لِتَنْكِيرِ قَوْمٍ وَوَصْفِهِمْ بِكَوْنِهِمْ يَبُسُّونَ ثُمَّ تَوْكِيدِهِ بِقَوْلِهِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُمْ مِمَّنْ رَكَنَ إِلَى الْحُظُوظِ الْبَهِيمِيَّةِ وَالْحُطَامِ الْفَانِي وَأَعْرَضُوا عَنِ الْإِقَامَةِ فِي جِوَارِ الرَّسُولِ وَلِذَلِكَ كَرَّرَ قَوْمًا وَوَصَفَهُ فِي كل قرينَة بِقَوْلِهِ يَبُسُّونَ اسْتِحْضَارًا لِتِلْكَ الْهَيْئَةِ الْقَبِيحَةِ وَاللَّهُ أعلم