فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب رفع الصوت بالنداء

(بابُُ رَفْعِ الصَّوْتِ بالنِّدَاءِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان رفع الصَّوْت بالنداء، أَي: رفع الْمُؤَذّن صَوته بِالْأَذَانِ، قَالَ ابْن الْمُنِير: لم ينص على حكم رفع الصَّوْت لِأَنَّهُ من صفة الْأَذَان، وَهُوَ لم ينص فِي أصل الْأَذَان على حكم، قلت: هُوَ فِي الْحَقِيقَة صفة الْمُؤَذّن لَا صفة الْأَذَان، وَلَا يحْتَاج إِلَى نَص الحكم ظَاهرا، لِأَن حَدِيث الْبابُُ يدل على أَن المُرَاد ثَوَاب رفع الْمُؤَذّن صَوته، فَيكون تَقْدِير كَلَامه: بابُُ فِي بَيَان ثَوَاب رفع الْمُؤَذّن صَوته عِنْد الْأَذَان، كَمَا ترْجم النَّسَائِيّ: بابُُ الثَّوَاب على رفع الصَّوْت بِالْأَذَانِ.

وَقَالَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ أذانْ أذانا سمْحا وإلاِّ فاعْتَزِلْنَا
مُطَابقَة هَذَا الْأَثر للتَّرْجَمَة، مَا قَالَه الدَّاودِيّ: لَعَلَّ هَذَا الْمُؤَذّن لم يكن يحسن مد الصَّوْت إِذا رفع بِالْأَذَانِ فَعلمه، وَلَيْسَ أَنه نَهَاهُ عَن رفع الصَّوْت، قلت: كَأَنَّهُ كَانَ يطرب فِي صَوته ويتنغم، وَلَا ينظر إِلَى مد الصَّوْت مُجَردا عَن ذَلِك، فَأمره عمر بن عبد الْعَزِيز بالسماحة.
وَهِي: السهولة، وَهُوَ أَن يسمح بترك التطريب ويمد صَوته، وَيدل على ذَلِك مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَاد فِيهِ لين من حَدِيث ابْن عَبَّاس: (أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لَهُ مُؤذن يطرب، فَقَالَ لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الْمُؤَذّن سهل سمح، فَإِن كَانَ أذانك سهلاً سَمحا وإلاَّ فَلَا تؤذن) ، وَيحْتَمل أَن هَذَا الْمُؤَذّن لم يكن يفصح فِي كَلَامه، ويغمغم فَأمره عبد الْعَزِيز بالسماحة فِي أَذَانه، وَهِي: ترك الغمغمة بِإِظْهَار الفصاحة، وَهَذَا لَا يكون إِلَّا بِمد الصَّوْت بحدة.
وروى مجاشع عَن هَارُون بن مُحَمَّد عَن نَافِع عَن ابْن عمر قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يُؤذن لكم إلاَّ فصيح) ،.

     وَقَالَ  ابْن عدي: هَارُون هَذَا لَا يعرف، وَأما التَّعْلِيق الْمَذْكُور فَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع عَن سُفْيَان عَن عمر بن سعد عَن أبي الْحسن: أَن مُؤذنًا أذن فطرب لَهُ فِي أَذَانه، فَقَالَ لَهُ عمر ابْن عبد الْعَزِيز: أذن أذانا سَمحا وإلاَّ فاعتزلنا.
قَوْله: (أذن) بِلَفْظ الْأَمر من الْفِعْل، وَهُوَ خطاب لمؤذنه.
قَوْله: (سَمحا) أَي: سهلا بِلَا نغمات وتطريب.
قَوْله: (فاعتزلنا أَي: فاترك منصب الْأَذَان.



[ قــ :593 ... غــ :609 ]
- حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ عَبْدِ الرَّحْمَن بنِ عَبْدِ الله بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ أبي صَعْصَعْة الأنْصَارِيِّ ثُمَّ المَازِنِيِّ عنْ أبِيهِ أنَّهُ أخْبَرَهُ أنَّ أَبَا سعِيدٍ الخُدْرِيَّ قَالَ لَهُ إنِّي أراكَ تُحِبُّ الغَنَمَ والبَادِيَةَ فَإذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ أوْ بَادِيَتِكَ فَأَذَّنْتَ بالصَّلاَةِ فارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ فإِنَّهُ لاَ يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ المُؤذِّنٌّ جِنُّ ولاَ إنْسٌ ولاَ شَيْءٌ إلأَّ شَهِدَ لهُ يَوْمَ القِيَامَةِ قَالَ أبُو سَعِيدٍ سَمِعْتُهُ منْ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فارفع صَوْتك بالنداء) .

ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عبد الله بن يُوسُف التنيسِي.
الثَّانِي: الإِمَام مَالك بن أنس.
الثَّالِث: عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي صعصعة، بالمهملات المفتوحات إِلَّا الْعين الأولى، فَإِنَّهَا سَاكِنة: الْأنْصَارِيّ الْمَازِني: بالزاي وَالنُّون، مَاتَ فِي خلَافَة أبي جَعْفَر، وَمِنْهُم من ينْسبهُ إِلَى جده، وَاسم أبي صعصعة: عَمْرو بن زيد بن عَوْف مبذول بن عَمْرو بن غنم بن مَازِن بن النجار، مَاتَ أَبُو صعصعة فِي الْجَاهِلِيَّة وَابْنه عبد الرَّحْمَن صَحَابِيّ.
الرَّابِع: أَبوهُ عبد الله بن عبد الرَّحْمَن.
الْخَامِس: أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد، والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع وَاحِد، وبصيغة الإِفراد فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين.
وَفِيه: أَن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله من أَفْرَاد البُخَارِيّ.
وَفِيه: أَن رُوَاته مدنيون مَا خلا شيخ البُخَارِيّ.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي ذكر الْجِنّ عَن قُتَيْبَة، وَفِي التَّوْحِيد عَن اسماعيل وَعَن ابي نعيم عَن عبد الْعَزِيز بن أبي سَلمَة الْمَاجشون عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي صعصعة عَن أَبِيه.
ذكره خلف وَحده،.

     وَقَالَ  أَبُو الْقَاسِم، لم أَجِدهُ وَلَا ذكره أَبُو مَسْعُود، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن سَلمَة عَن ابْن الْقَاسِم عَن مَالك بِهِ.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن مُحَمَّد بن الصَّباح عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن ابْن أبي صعصعة عَن أَبِيه عَن أبي سعيد بِهِ، كَذَا يَقُول سُفْيَان.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (قَالَ لَهُ) ، أَي: قَالَ أَبُو سعيد لعبد الله بن عبد الرَّحْمَن.
قَوْله: (والبادية) ، أَي: وتحب الْبَادِيَة أَيْضا لأجل الْغنم، لِأَن محب الْغنم يحْتَاج إِلَى إصلاحها بالمرعى، وَهُوَ فِي الْغَالِب يكون فِي الْبَادِيَة، وَهِي الصَّحرَاء الَّتِي لَا عمَارَة فِيهَا.
قَوْله: (فَإِذا كنت فِي غنمك) ، أَي: بَين غنمك، وَكلمَة: فِي، تَأتي بِمَعْنى بَين، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { فادخلي فِي عبَادي} (الْفجْر: 29) .
وَفِي (الْمُخَصّص) : الْغنم جمع لَا وَاحِد لَهُ من لَفظه.
.

     وَقَالَ  ابو حَاتِم: وَهِي انثى.
وَعَن صَاحب (الْعين) : الْجمع أَغْنَام وأغانم وغنوم.
وَفِي (الْمُحكم) : ثنوه فَقَالُوا: غنمان.
وَفِي (الْجَامِع) : هُوَ اسْم لجمع الضَّأْن والمعز.
وَفِي (الصِّحَاح) : مَوْضُوع للْجِنْس يَقع على الذُّكُور وَالْإِنَاث وَعَلَيْهِمَا جَمِيعًا.
قَوْله: (أَو باديتك) كلمة: أَو، هُنَا يحْتَمل أَن تكون للشَّكّ من الرَّاوِي، أَو تكون للتنويع، لِأَنَّهُ قد يكون فِي غنم بِلَا بادية، وَقد يكون فِي بادية بِلَا غنم، وَقد يكون فيهمَا مَعًا.
وَقد لَا يكون فيهمَا مَعًا، وعَلى كل حَال لَا يتْرك الْأَذَان.
قَوْله: (فَأَذنت للصَّلَاة) أَي: لأجل الصَّلَاة، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ فِي بَدْء الْخلق: (بِالصَّلَاةِ) ، وَالْبَاء للسَّبَبِيَّة ومعناهما قريب.
قَوْله: (بالنداء) أَي: الْأَذَان.
قَوْله: (مدى صَوت) ، أَي: لَا يسمع غَايَة صَوت الْمُؤَذّن.
قَالَ التوربشتي: إِنَّمَا ورد الْبَيَان على الْغَايَة مَعَ حُصُول الْكِفَايَة بقوله: (لَا يسمع صَوت الْمُؤَذّن) ، تَنْبِيها على أَن آخر مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ صَوته يشْهد لَهُ كَمَا يشْهد لَهُ الْأَولونَ.
.

     وَقَالَ  القَاضِي الْبَيْضَاوِيّ: غَايَة الصَّوْت تكون أخْفى لَا محَالة.
فَإِذا شهد لَهُ من بعد عَنهُ وَوصل إِلَيْهِ هَمس صَوته فَلِأَنَّهُ يشْهد لَهُ من هُوَ أدنى مِنْهُ وَسمع مبادي صَوته أولى.
قَوْله: (لَا شَيْء) هَذَا من عطف الْعَام على الْخَاص، لَان الْجِنّ وَالْإِنْس يدخلَانِ فِي: شَيْء، وَهُوَ يَشْمَل الْحَيَوَانَات والجمادات.
قيل: إِنَّه مَخْصُوص بِمن تصح مِنْهُ الشَّهَادَة مِمَّن يسمع: كالملائكة، نَقله الْكرْمَانِي.
وَقيل: المُرَاد بِهِ كل مَا يسمع الْمُؤَذّن من الْحَيَوَان حَتَّى مَا لَا يعقل دون الجمادات.
وَقيل: عَام حَتَّى فِي الجمادات أَيْضا، وَالله تَعَالَى يخلق لَهَا إدراكا وعقلاً، وَهُوَ غير مُمْتَنع عقلا وَلَا شرعا.
.

     وَقَالَ  ابْن بزيزة: تقرر فِي الْعَادة أَن السماع وَالشَّهَادَة وَالتَّسْبِيح لَا يكون إِلَّا من حَيّ، فَهَل ذَلِك إلاَّ حِكَايَة على لِسَان الْحَال؟ لِأَن الموجودات ناطقة بِلِسَان حَالهَا بِجلَال باريها.
قَوْله: (إلاَّ شهد لَهُ) .
وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (إلاَّ يشْهد لَهُ) .
وَالْمرَاد من الشَّهَادَة { وَكفى بِاللَّه شَهِيدا} (النِّسَاء: 79 و 166، الْفَتْح: 28) .
اشتهاره يَوْم الْقِيَامَة فِيمَا بَينهم بِالْفَضْلِ وعلو الدرجَة، وكما أَن الله يفضح قوما بِشَهَادَة الشَّاهِدين، كَذَلِك يكرم قوما بهَا، تجميلاً لَهُم وتكميلاً لسرورهم وتطمينا لقُلُوبِهِمْ قَوْله: (سمعته من رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) قَالَ الْكرْمَانِي: أَي: سَمِعت هَذَا الْكَلَام الْأَخير، وَهُوَ قَوْله: (فَإِنَّهُ لَا يسمع) إِلَى آخِره.
قلت: أَشَارَ بذلك إِلَى أَن من قَوْله: (إِنِّي أَرَاك) ، إِلَى قَوْله: (فَإِنَّهُ لَا يسمع) ، مَوْقُوف، وَيُؤَيّد ذَلِك مَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة من رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة وَلَفظه: (قَالَ أَبُو سعيد: إِذا كنت فِي الْبَوَادِي فارفع صَوْتك بالنداء فَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: لَا يسمع مدى صَوت الْمُؤَذّن) فَذكره، وَرَوَاهُ يحيى الْقطَّان أَيْضا عَن مَالك بِلَفْظ: (أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: إِذا أَذِنت فارفع صَوْتك فَإِنَّهُ لَا يسمع) فَذكره، وَقد أورد الْغَزالِيّ والرافعي وَالْقَاضِي حُسَيْن هَذَا الحَدِيث وجعلوه كُله مَرْفُوعا، وَلَفظه: (أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ لأبي سعيد: إِنَّك رجل تحب الْغنم) .
وساقوه إِلَى آخِره، ورده النَّوَوِيّ، وتصدى ابْن الرّفْعَة للجواب عَنْهُم بِأَنَّهُم فَهموا أَن قَول أبي سعيد: سمعته من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يرجع إِلَى كل مَا ذكر، وَالصَّوَاب مَعَ النَّوَوِيّ لما ذَكرْنَاهُ.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: اسْتِحْبابُُ رفع الصَّوْت بِالْأَذَانِ ليكْثر من يشْهد لَهُ وَلَو أذن على مَكَان مُرْتَفع ليَكُون أبعد لذهاب الصَّوْت، وَكَانَ بِلَال، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يُؤذن على بَيت امْرَأَة من بني النجار، بَيتهَا أطول بَيت حول الْمَسْجِد.
وَفِيه: الْعُزْلَة عَن النَّاس خُصُوصا فِي أَيَّام الْفِتَن.
وَفِيه: اتِّخَاذ الْغنم وَالْمقَام بالبادية، وَهُوَ من فعل السّلف.
وَفِيه: أَن أَذَان الْمُنْفَرد مَنْدُوب، وَلَو كَانَ فِي بَريَّة، لِأَنَّهُ إِن لم يحضر من يُصَلِّي مَعَه يحصل لَهُ شَهَادَة من سَمعه من الْحَيَوَانَات والجمادات.
وَللشَّافِعِيّ فِي أَذَان الْمُنْفَرد ثَلَاثَة أَقْوَال: أَصَحهَا: نعم، لحَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ هَذَا، وَالثَّانِي: وَهُوَ الْقَدِيم: لَا ينْدب لَهُ لِأَن الْمَقْصُود من الْأَذَان والإبلاغ والإعلام، وَهَذَا لَا يَنْتَظِم فِي الْمُنْفَرد.
وَالثَّالِث: أَن رجى حُضُور جمَاعَة أذن لإعلامهم، وإلاَّ فَلَا، وَحمل حَدِيث أبي سعيد على أَنه كَانَ يَرْجُو حُضُور غلمانه.
وَفِيه: أَن الْجِنّ يسمعُونَ أصوات بني آدم.
وَفِيه: أَن بعض الْخلق يشْهد لبَعض.

<