فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب إقبال المحيض وإدباره

( بابُُ إقْبالِ المَحِيضِ وإدْبارِهِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان إقبال الْحيض وإدباره.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: إقبال الْحيض هُوَ الدفعة من الدَّم، وإدباره أقبال الطُّهْر.
وَعند
أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة: عَلامَة إدبار الْحيض وانقطاعه الزَّمَان وَالْعَادَة، فَإِذا أخلت عَادَتهَا تحرت، وَإِن لم يكن لَهَا ظن أخذت بِالْأَقَلِّ.

والمناسبة بَين الْبابَُُيْنِ من حَيْثُ وجود حكم الْحيض فِي كل مِنْهُمَا.
وكُنَّ نِسَاءٌ يَبْعَثْنَ إِلَى عائشَةَ بالدُّرْجَةِ فِيها الكُرْسُفُ فِيهِ الصُّفْرَةَ فَتَقُولُ لَا تعْجَلْنَ حتَّى تَرَيْنَ القَصةَ البَيْضَاءَ تُرِيدُ بِذَلِكَ الطُّهْرَ مِنَ الحَيْضَةِ
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْلهَا: ( حَتَّى تَرين الْقِصَّة الْبَيْضَاء) ، فَإِنَّهَا عَلامَة إدبار الْحيض، وَهَذَا الْأَثر ذكره مَالك فِي ( الْمُوَطَّأ) فَقَالَ: عَن عَلْقَمَة بن أبي عَلْقَمَة، عَن أمه مولاة عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: ( كَانَ النِّسَاء يبْعَثْنَ إِلَى عَائِشَة بالدرجة فِيهَا الكرسف فِيهَا الصُّفْرَة من دم الْحيض يسألنها عَن الصَّلَاة فَتَقول لَهُنَّ: لَا تعجلن حَتَّى تَرين الْقِصَّة الْبَيْضَاء، تُرِيدُ الطُّهْر من الْحَيْضَة) .
.

     وَقَالَ  ابْن حزم: خولفت أم عَلْقَمَة بِمَا هُوَ أقوي من رِوَايَتهَا، وَاسم: أم عَلْقَمَة، مرْجَانَة سَمَّاهَا ابْن حبَان فِي ( كتاب الثِّقَات) .
.

     وَقَالَ  الْعجلِيّ: مَدَنِيَّة تابعية ثِقَة.
وَفِي ( التَّلْوِيح) : كَذَا ذكره البُخَارِيّ هُنَا مُعَلّقا مَجْزُومًا، وَبِه تعلق النَّوَوِيّ فَقَالَ: هَذَا تَعْلِيق صَحِيح لِأَن البُخَارِيّ ذكره بِصِيغَة الْجَزْم، وَمَا علم أَن هَذِه الْعبارَة قد لَا تصح كَمَا سبق بَيَانه فِي كثير من التَّعْلِيق المجزوم بِهِ عِنْد البُخَارِيّ، وَلَو نظر كتاب ( الْمُوَطَّأ) لمَالِك بن أنس لوجده قد قَالَ: عَن علقمةِ إِلَى آخِره، وَلَو وجده ابْن حزم لما قَالَ: خولفت أم عَلْقَمَة بِمَا هُوَ أقوى من رِوَايَاتهَا.
قلت: حَاصِل كَلَامه أَنه يرد على النَّوَوِيّ فِي دَعْوَاهُ الْجَزْم بِهِ، وَلِهَذَا قَالَ ابْن الْحصار: هَذَا حَدِيث أخرجه البُخَارِيّ من غير تَقْيِيد.

قَوْله: ( وَكن نسَاء) ، بِصِيغَة الْجمع للمؤنث، وَفِيه ضمير يرجع إِلَى النِّسَاء، وَيُسمى مثل هَذَا الضَّمِير بالضمير الْمُبْهم، وَجوز ذَلِك بِشَرْط أَن يكون مشعرا بِمَا بعده، فَإِذا كَانَ كَذَلِك لَا يُقَال: إِنَّه إِضْمَار قبل الذّكر.
قَوْله: ( نسَاء) ، بِالرَّفْع لِأَنَّهُ بدل من الضَّمِير الَّذِي فِي: ركن، وَهَذَا على لُغَة: أكلوني البراغيث.
وَفَائِدَة ذكره بعد أَن علم من لفظ كن إِشَارَة إِلَى التنويع، والتنوين فِيهِ يدل عَلَيْهِ.
وَالْمرَاد أَن ذَلِك كَانَ من بَعضهنَّ لَا من كُلهنَّ.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: والتنكير فِي النِّسَاء للتنويع.
قلت: إِن لم يكن هَذَا مُصحفا من النَّاسِخ فَهُوَ غلط لِأَنَّهُ ماثم كسر فِي النِّسَاء، وَإِنَّمَا فِيهِ الرّفْع كَمَا ذكرنَا، أَو النصب على الِاخْتِصَاص، لَا يُقَال: إِنَّه نكرَة وَشرط النصب على الِاخْتِصَاص أَن يكون معرفَة، لأَنا نقُول: جَاءَ نكرَة كَمَا جَاءَ معرفَة.
.

     وَقَالَ  الْهُذلِيّ:

( ويأوي إِلَى نسْوَة عطلوشعثا مراضيع مثل السعالي.
)


قَوْله: ( بالدرجة) ، بِضَم الدَّال وَسُكُون الرَّاء.
قَالَه ابْن قرقول.
وَقيل بِكَسْر الدَّال وَفتح الرَّاء، وَعند الْبَاجِيّ بِفَتْح الدَّال وَالرَّاء.
قَالَ ابْن قرقول: وَهِي بعيدَة عَن الصَّوَاب.
.

     وَقَالَ  أَبُو الْمعَانِي فِي كتاب ( الْمُنْتَهى) : والدرج، بالتسكين: خفش النِّسَاء، والدرجة شَيْء يدرج فَيدْخل فِي حَيا النَّاقة، ثمَّ تشمه فتظنه وَلَدهَا فتراه، وَكَذَا ذكره الْقَزاز، وَصَاحب ( الصِّحَاح) وَابْن سَيّده زَاد: والدرجة أَيْضا خرقَة يوضع فِيهَا دَوَاء ثمَّ يدْخل فِي حَيا النَّاقة، وَذَلِكَ إِذا اشتكت مِنْهُ.
وَفِي ( الباهر) : الدرجَة بِالْكَسْرِ، والإدراج جمع: الدرج، وَهُوَ سفط صَغِير.
والدرجة مِثَال رطبَة.
وَفِي ( الجمهرة) لِابْنِ دُرَيْد: الدرج سفط صَغِير تجْعَل فِيهِ الْمَرْأَة طيبها وَمَا أشبهه.
.

     وَقَالَ  ابْن قرقول: وَمن قَالَ بِكَسْر الدَّال وَفتح الرَّاء فَهُوَ عِنْده جمع درج، وَهُوَ سفط صَغِير نَحْو خرج وخرجة، وَنَحْو ترس وترسة.
قَوْله: ( الكرسف) بِضَم الْكَاف وَإِسْكَان الرَّاء وَضم السِّين الْمُهْملَة، وَفِي آخِره فَاء: وَهُوَ الْقطن، كَذَا قَالَه أَبُو عبيد.
.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة الدينَوَرِي فِي كتاب ( النَّبَات) : وَزعم بعض الروَاة أَنه يُقَال لَهُ: الكرسف، على الْقلب، وَيجمع الكرفس على كراسف.
وَفِي ( الْمُحكم) : إِنَّمَا اختير الْقطن لبياضه، وَلِأَنَّهُ ينشف الرُّطُوبَة فَيظْهر فِيهِ من آثَار الدَّم مَا لَا يظْهر من غَيره.
قَوْله: ( فَتَقول) أَي عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
قَوْلهَا: ( لَا تعجلن) بِسُكُون اللَّام نهي لجمع مؤنث مُخَاطبَة، وَيَأْتِي كَذَلِك للْجمع الْمُؤَنَّث الغائبة، وَيجوز هَهُنَا الْوَجْهَانِ.
وَكَذَا: ( فِي تَرين) فَافْهَم.
قَوْلهَا: ( حَتَّى تَرين) صِيغَة جمع الْمُؤَنَّث المخاطبة، وَأَصلهَا: ترأين، على وزن: تفعلن، لِأَنَّهَا من: رأى يرأى رُؤْيَة بِالْعينِ، وَتقول للْمَرْأَة: أَنْت تَرين، وللجماعة: أنتن تَرين، لِأَن الْفِعْل للواحدة وَالْجَمَاعَة سَوَاء فِي المواجهة فِي خبر الْمَرْأَة من بَنَات الْيَاء، إلاَّ أَن النُّون الَّتِي فِي الْوَاحِدَة عَلامَة الرّفْع، وَالَّتِي فِي الْجمع نون الْجمع.
فَإِن قلت: إِذا كَانَ أصل: تَرين ترأين، كَيفَ فعل بِهِ حَتَّى صَار: تَرين؟ قلت: نقلت حَرَكَة الْهمزَة إِلَى الرَّاء، ثمَّ قلبت ألفا لتحركها فِي الأَصْل وانفتاح مَا قبلهَا، ثمَّ حذفت لالتقاء الساكنين فَصَارَ: تَرين، على وزن: تفلن، لِأَن الْمَحْذُوف مِنْهُ عين الْفِعْل وَهُوَ الْهمزَة فَقَط، وَوزن الْوَاحِدَة: تفين، لِأَن الْمَحْذُوف مِنْهُ عين الْفِعْل ولامه.
قَوْلهَا: ( الْقِصَّة الْبَيْضَاء) ، بِفَتْح الْقَاف وَتَشْديد الصَّاد الْمُهْملَة، وَفِي تَفْسِيرهَا أَقْوَال.
قَالَ ابْن سَيّده: الْقِصَّة والقص والجص، وَقيل: الْحِجَارَة من الجص.
.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: هِيَ لُغَة حجازية، يُقَال: قصَص دَاره أَي: جصصها.
وَيُقَال: الْقِصَّة القطنة والخرقة الْبَيْضَاء الَّتِي تحتشى بهَا الْمَرْأَة عِنْد الْحيض.
.

     وَقَالَ  الْقَزاز: الْقِصَّة الجص، هَكَذَا قرأته بِفَتْح الْقَاف وحكيت بِالْكَسْرِ.
وَفِي ( الغريبين) و ( الْمغرب) و ( الْجَامِع) : الْقِصَّة شَيْء كالخيط الْأَبْيَض يخرج بعد انْقِطَاع الدَّم كُله.
وَفِي ( الْمُحِيط) من كتب أَصْحَابنَا: الْقِصَّة الطين الَّذِي يغسل بِهِ الرَّأْس.
وَهُوَ أَبيض يضْرب إِلَى الصُّفْرَة.
وَجَاء فِي الحَدِيث: ( الْحَائِض لَا تَغْتَسِل حَتَّى تري الْقِصَّة الْبَيْضَاء) .
إِي: حَتَّى تخرج الْقطن الَّتِي تحتشي بهَا كَأَنَّهَا جصة لَا تخالطها صفرَة.
قلت: أُرِيد بهَا التَّشْبِيه بالجصة فِي الْبيَاض والصفاء، وأنث لِأَنَّهُ ذهب الى الْمُطَابقَة، كَمَا حكى سِيبَوَيْهٍ من قَوْلهم: لبنة وعسلة.
.

     وَقَالَ  ابْن قرقول: قد فسر مَالك الْقِصَّة بقوله: تُرِيدُ بذلك الطُّهْر، أَي: تُرِيدُ عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، بقولِهَا: ( حَتَّى تَرين الْقِصَّة الْبَيْضَاء) : الطُّهْر من الْحَيْضَة.
وَفسّر الْخطابِيّ بقوله: تُرِيدُ الْبيَاض التَّام.
.

     وَقَالَ  ابْن وهب فِي تَفْسِيره: رَأَتْ الْقطن الْأَبْيَض كَأَنَّهُ هُوَ،.

     وَقَالَ  مَالك: سَأَلت النِّسَاء عَن الْقِصَّة الْبَيْضَاء، فَإِذا ذَلِك أَمر مَعْلُوم عِنْد النِّسَاء يرينه عِنْد الطُّهْر.
وروى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث ابْن اسحاق عَن عبد الله بن أبي بكر عَن فَاطِمَة بنت مُحَمَّد، وَكَانَت فِي حجر عمْرَة.
قَالَت: أرْسلت امْرَأَة من قُرَيْش إِلَى عمْرَة كرسفة قطن فِيهَا.
أَظُنهُ أَرَادَ الصُّفْرَة تسألها إِذا لم تَرَ من الْحَيْضَة إلاَّ هَذَا طهرت؟ قَالَ: فَقَالَت: لَا حَتَّى ترى الْبيَاض خَالِصا.
وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَمَالك، فَإِن رَأَتْ صفرَة فِي زمن الْحيض ابْتِدَاء فَهُوَ حيض عِنْدهم.
.

     وَقَالَ  أَبُو يُوسُف: لَا حَتَّى يتقدمها دم.

وَبَلَغَ ابْنَةَ زَيدِ بنِ ثابِتٍ أنَّ نِساءً يَدْعُونَ بالمَصَابِيحِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ يَنْظُرْنَ إِلَى الطُّهْرِ فَقَالَتْ مَا كانَ النِّسَاءُ يَصْنَعْنَ هَذَا وَعَابَتْ عَلَيْهِنَّ
مُطَابقَة هَذَا الْأَثر للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن نظر النِّسَاء إِلَى الطُّهْر لأجل أَن يعلمن إدبار الْحيض.

وَأخرجه مَالك فِي ( الْمُوَطَّأ) عَن عبد الله بن أبي بكر عَن عمته عَن ابْنة زيد بن ثَابت أَنه: بلغنَا ... فَذكره، وعمة ابْن أبي بكر اسْمهَا عمْرَة بنت حزم، وَوَقع ذكر بنت زيد بن ثَابت هَهُنَا هَكَذَا مُبْهما، وَوَقع فِي ( الْمُوَطَّأ) ،.

     وَقَالَ  الْحَافِظ الدمياطي: لزيد بن ثَابت من الْبَنَات: أم إِسْحَاق وحسنة وَعمرَة وَأم كُلْثُوم وَأم حسن وَأم مُحَمَّد وَقَرِيبَة وَأم سعد.
وَفِي ( التَّوْضِيح) : وَيُشبه أَن تكون هَذِه المبهمة أم سعد، ذكرهَا ابْن عبد الْبر فِي الصحابيات،.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَلم أر لوَاحِدَة مِنْهُنَّ يَعْنِي من بَنَات زيد رِوَايَة إلاَّ لأم كُلْثُوم، وَكَانَت زوج سَالم بن عبد الله بن عمر، فَكَأَنَّهَا هِيَ المبهمة هُنَا.
وَزعم بعض الشُّرَّاح أَنَّهَا أم سعد.
قَالَ لِأَن ابْن عبد الْبر ذكرهَا فِي الصَّحَابَة، ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَلَيْسَ فِي ذكره لَهَا دَلِيل على الْمُدعى، لِأَنَّهُ لم يقل: إِنَّهَا صَاحِبَة هَذِه الْقِصَّة، بل لم يَأْتِ لَهَا ذكر عِنْده وَلَا عِنْد غَيره إلاَّ من طَرِيق عَنْبَسَة بن عبد الرَّحْمَن، وَقد كذبوه، وَكَانَ مَعَ ذَلِك يضطرب فِيهَا، فَتَارَة يَقُول: بنت زيد، وَتارَة يَقُول: امْرَأَة زيد.
وَلم يذكر أحد من أهل الْمعرفَة بِالنّسَبِ فِي أَوْلَاد زيد من يُقَال لَهَا أم سعد.
انْتهى.
قلت: ذكره الذَّهَبِيّ، فَقَالَ: أم سعد بنت زيد بن ثَابت.
وَقيل: امْرَأَته، وَأَيْضًا عدم رُؤْيَة هَذَا الْقَائِل رِوَايَة الْوَاحِدَة من بَنَات زيد إلاَّ لأم كُلْثُوم لَا يُنَافِي رِوَايَة غَيرهَا من بَنَاته، لِأَنَّهُ لَيْسَ من شَأْنه أَن يُحِيط بِجَمِيعِ الرِّوَايَات.
وَقَوله: زعم بعض الشُّرَّاح، أَرَادَ بِهِ صَاحب ( التَّوْضِيح) ، فليت شعري مَا الْفرق بَين زعم هَذَا وزعمه هُوَ حَيْثُ قَالَ: فَكَأَنَّهَا هِيَ المبهمة، أَي: أم كُلْثُوم هِيَ المبهمة فِي هَذَا الْأَثر؟ على أَن صَاحب ( التَّوْضِيح) مَا جزم بِمَا قَالَه، بل قَالَ: وَيُشبه أَن تكون هَذِه المبهمة أم سعد.

قَوْله: ( إِن نسَاء) هَكَذَا وَقع فِي غَالب النّسخ بِدُونِ الْألف وَاللَّام، وَفِي بَعْضهَا: ( إِن النِّسَاء) ، بِالْألف وَاللَّام، حَتَّى قَالَ الْكرْمَانِي: إِن اللَّام، للْعهد عَن نسَاء الصَّحَابَة، وَبِدُون اللَّام أَعم وأشمل.
قَوْله: ( يدعونَ) بِلَفْظ الْجمع الْمُؤَنَّث، ويشترك فِي هَذِه الْمَادَّة الْجمع الْمُذكر والمؤنث، وَفِي التَّقْدِير مُخْتَلف، فوزن الْجمع الْمُذكر: يفعون، وَوزن الْجمع الْمُؤَنَّث: يفعلن، وَمعنى: يدعونَ بالمصابيح؛ يطلبنها لينظرن بهَا إِلَى مَا فِي الكراسيف حَتَّى يَقِفن على مَا يدل على الطُّهْر.
وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: يدعين، قَالَه بَعضهم: قلت: فِي نِسْبَة هَذَا إِلَيْهِ نظر لَا يخفى، ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: قَالَ صَاحب ( الْقَامُوس) : دعيت لُغَة فِي دَعَوْت.
قلت: أَرَادَ بِهَذَا تَقْوِيَة صِحَة مَا رَوَاهُ عَن الْكشميهني، وَلَا يفِيدهُ هَذَا، لِأَن صَاحب ( الْقَامُوس) تكلم فِيهِ.
قَوْله: ( إِلَى الطُّهْر) أَي: إِلَى مَا يدل على الطُّهْر من القطنة.
قَوْله: ( وعابت عَلَيْهِنَّ) ، أَي: عابت بنت زيد بن ثَابت على النِّسَاء الْمَذْكُورَة، وَإِنَّمَا عابت عَلَيْهِنَّ لِأَن ذَلِك يَقْتَضِي الْحَرج وَهُوَ مَذْمُوم، وَكَيف لَا وجوف اللَّيْل لَيْسَ إلاَّ وَقت الاسْتِرَاحَة؟ وَقيل: لكَون ذَلِك كَانَ فِي غير وَقت الصَّلَاة، وَهُوَ جَوف اللَّيْل.
قَالَ بَعضهم: فِيهِ نظر، لِأَنَّهُ وَقت الْعشَاء.
قلت: فِيهِ نظر لِأَنَّهُ لم يدل شَيْء أَنه كَانَ وَقت الْعشَاء، لِأَن طلب المصابيح لأمر غَالب لَا يكون إلاَّ فِي شدَّة الظلمَة، وَشدَّة الظلمَة لَا تكون إلاَّ فِي جَوف اللَّيْل.
وروى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عباد بن إِسْحَاق عَن عبد الله بن أبي بكر عَن عمْرَة عَن عَائِشَة أَنَّهَا كَانَت تنْهى النِّسَاء أَن ينظرن إِلَى أَنْفسهنَّ لَيْلًا فِي الْحيض، وَتقول: ( إِنَّهَا قد تكون الصُّفْرَة والكدرة) .
وَعَن مَالك: لَا يُعجبنِي ذَلِك، وَلم يكن للنَّاس مصابيح.
وروى ابْن الْقَاسِم عَنهُ: أَنَّهُنَّ كن لَا يقمن بِاللَّيْلِ.
.

     وَقَالَ  صَاحب ( التَّلْوِيح) يشبه أَن يكون مَا بلغ ابْنة زيد عَن النِّسَاء كَانَ فِي أَيَّام الصَّوْم لينظرن الطُّهْر لنِيَّة الصَّوْم، لِأَن الصَّلَاة لَا تحْتَاج لذَلِك، لِأَن وُجُوبهَا عَلَيْهِنَّ إِنَّمَا يكون بعد طُلُوع الْفجْر.

وَاخْتلف الْفُقَهَاء فِي الْحَائِض تطهر قبل الْفجْر وَلَا تغسل حَتَّى يطلع الْفجْر.
فَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِن كَانَت أَيَّامهَا أقل من عشرَة صَامت وقضت، وَإِن كَانَت عشرَة صَامت وَلم تقض.
.

     وَقَالَ  مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: هِيَ بِمَنْزِلَة الْجنب تَغْتَسِل وتصوم، ويجزيها صَوْم ذَلِك الْيَوْم، وَعَن عبد الْملك بن ماجشون: يَوْمهَا ذَلِك يَوْم فطر.
.

     وَقَالَ  الْأَوْزَاعِيّ: تصومه وتقضيه.

وَفِي ( الْقَوَاعِد) لِابْنِ رشد: اخْتلف الْفُقَهَاء فِي عَلامَة الطُّهْر، فَرَأى قوم أَن علامته الْقِصَّة أَو الجفوف.
قَالَ ابْن حبيب: وَسَوَاء كَانَت الْمَرْأَة من عَادَتهَا انها تطهر بِهَذِهِ، وَفرق قوم فَقَالُوا: إِن كَانَت مِمَّن لَا يَرَاهَا فطهرها الجفوف.
.

     وَقَالَ  ابْن حبيب: الْحيض أَوله دم ثمَّ يصير صفرَة ثمَّ تربة ثمَّ كدرة ثمَّ يكون ريقا كالقصة ثمَّ يَنْقَطِع، فَإِذا انْقَطع قبل هَذِه الْمنَازل وجف أصلا فَذَلِك إِبْرَاء للرحم.
وَفِي ( المُصَنّف) عَن عَطاء: الطُّهْر الْأَبْيَض الجفوف الَّذِي لَيْسَ مَعَه صفرَة وَلَا مَاء، وَعَن أَسمَاء بنت أبي بكر، رَضِي الله عَنهُ: سُئِلت عَن الصُّفْرَة الْيَسِيرَة، قَالَت: اعتزلن الصَّلَاة مَا رأين ذَلِك حَتَّى لَا تَرين إلاَّ لَبَنًا خَالِصا.



[ قــ :316 ... غــ :320 ]
- ح دَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ هِشَامٍ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ أنَّ فاطِمَةَ بِنْتَ أبِي حُبَيْشٍ كانَتْ تُسْتَحَاضُ فسألَتِ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالَ ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بالحَيْضَةِ فَإذَا أقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلاةَ وإذَا أدْبَرَتْ فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَهِي فِي قَوْله: ( فَإِذا أَقبلت، وَإِذا أَدْبَرت) .
وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي بابُُ غسل الدَّم وَفِي بابُُ الِاسْتِحَاضَة، وسُفْيَان فِي هَذَا الْإِسْنَاد هُوَ ابْن عُيَيْنَة، لِأَن عبد الله بن مُحَمَّد وَهُوَ المسندي لم يسمع من سُفْيَان الثَّوْريّ، وَلَفظ الحَدِيث فِي بابُُ غسل الدَّم: ( فَإِذا أَدْبَرت فاغسلي عَنْك الدَّم وَصلي) من غير إِيجَاب الْغسْل،.

     وَقَالَ  عُرْوَة: ثمَّ توضئي لكل صَلَاة لإِيجَاب الْوضُوء، وَهنا قَالَ: ( فاغتسلي وَصلي) لإِيجَاب الْغسْل، لِأَن أَحْوَال المستحاضات مُخْتَلفَة، فيوزع عَلَيْهَا.
أَو نقُول: إِيجَاب الْغسْل والتوضىء لَا يُنَافِي عدم التَّعَرُّض لَهما، وَإِنَّمَا يُنَافِي التَّعَرُّض لعدمهما.
وَقَوله: ( فاغتسلي وَصلي) لَا يَقْتَضِي تكْرَار الِاغْتِسَال لكل صَلَاة، بل يَكْفِي غسل وَاحِد، وَلَا يرد عَلَيْهِ حَدِيث أم حَبِيبَة: كَانَت تَغْتَسِل لكل صَلَاة، على مَا يَأْتِي فِي بابُُ عرق الِاسْتِحَاضَة، لِأَنَّهَا لَعَلَّهَا كَانَت من المستحاضات الَّتِي يجب عَلَيْهَا الْغسْل لكل صَلَاة.
.

     وَقَالَ  [قعالشافعي [/ قع، رَحمَه الله تَعَالَى: إِنَّمَا أمرهَا أَن تَغْتَسِل وَتصلي، وَلَيْسَ فِي أَنه أمرهَا أَن تَغْتَسِل لكل صَلَاة قَالَ: وَلَا أَشك، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، أَن غسلهَا كَانَ تَطَوّعا غير مَا أمرت بِهِ.
وَذَلِكَ وَاسع.