فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها، في الحضر والسفر، وما يجهر فيها وما يخافت

(بابُُ وجُوبُ القرَاءَةِ لِلإمامِ والْمَأمُومِ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا فِي الحَضْرِ والسَّفَرِ وَمَا يُجْهَرُ فِيها وَمَا يُخَافَتُ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي وجوب الْقِرَاءَة فِي الصَّلَوَات كلهَا فِي الْحَضَر وَالسّفر، وَإِنَّمَا ذكر السّفر لِئَلَّا يظنّ أَن الْمُسَافِر يترخص لَهُ ترك الْقِرَاءَة كَمَا يرخص لَهُ فِي تشطير الرّبَاعِيّة.
قَوْله: (وَمَا يجْهر فِيهَا) على صِيغَة الْمَجْهُول عطف على قَوْله: (فِي الصَّلَاة) ، وَالتَّقْدِير: وَوُجُوب الْقِرَاءَة أَيْضا فِيمَا يجْهر فِيهَا.
وَقَوله: (وَمَا يُخَافت) على صِيغَة الْمَجْهُول أَيْضا عطف على مَا يجْهر، وَالتَّقْدِير: وَوُجُوب الْقِرَاءَة أَيْضا فِيمَا يُخَافت أَي يستر.

وَحَاصِل الْكَلَام أَن الْقِرَاءَة وَاجِبَة فِي الصَّلَوَات كلهَا سَوَاء كَانَ الْمُصَلِّي فِي الْحَضَر أَو فِي السّفر، وَسَوَاء كَانَت الصَّلَاة فِيمَا يجْهر بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا أَو يسر، وَسَوَاء كَانَ الْمُصَلِّي إِمَامًا أَو مَأْمُوما.
وَقيد الْمَأْمُوم على مذْهبه لِأَن عِنْد الْحَنَفِيَّة لَا تجب الْقِرَاءَة على الْمَأْمُوم، لِأَن قِرَاءَة الإِمَام قِرَاءَة لَهُ، وَإِنَّمَا لم يذكر الْمُنْفَرد لِأَن حكمه حكم الإِمَام.



[ قــ :734 ... غــ :755 ]
- حدَّثنا مُوسَى قَالَ حدَّثنا أبُو عَوَانَةَ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ المَلِكِ بنُ عُمَيْرٍ عنْ جَابِرِ بنِ سَمُرَةَ قَالَ شَكا أهْلُ الكُوفَةِ سَعْدا إلَى عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَعَزَلَهُ واسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمَّارا فَشَكَوْا حَتَّى ذكَرُوا أنَّهُ لاَ يُحْسِنُ يُصَلِّي فَأرْسَلَ إلَيْهِ فَقَالَ يَا أَبَا إسْحَاقَ إنَّ هَؤُلاَءِ يَزْعَمُونَ أنَّكَ لاَ تُحْسِنُ تُصَلِّي قَالَ أبُو إسْحَاقَ أمَّا أَنا وَالله فإنِّي كُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ صَلاَةَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أخْرِمُ عَنهَا أُصَلِّي صَلاَةَ العِشَاءِ فَأرْكُدُ فِي الأُولَيَيْنِ وَأخِفُّ فِي الأُخْرَيَيْنِ قَالَ ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أبَا إسْحَاقَ فَأرْسَلَ مَعَهُ رَجُلاً أوْ رِجَالاً إلَى الكُوفَةِ فَسَألَ عَنْهُ أهْلَ الكُوفَةِ ولَمْ يَدَعْ مَسْجِدا إلاَّ سَأَلَ عَنْهُ وَيثْنُونَ عَلَيْهِ مَعْرُوفا حَتَّى دَخَلَ مَسْجِدا لِبَنِي عَبْسٍ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أُسَامَةُ بنُ قَتَادَةَ يُكْنَي أَبَا سَعْدَةَ قَالَ أمَّا إذْ نَشَدْتَنَا فإنَّ سَعْدا كانَ لاَ يَسِيرُ بالسَّريَّةِ وَلَا يقسم بِالسَّوِيَّةِ ولاَ يَعْدِلُ فِي القَضِيَّةِ قَالَ سَعْدٌ أمَا وَالله لأَدْعُوَنَّ بِثَلاَثٍ اللَّهُمَّ إنْ كانَ عَبْدُكَ هَذِا كَاذِبا قامَ رِياءً وسُمْعَةً فأطِلْ عُمْرَهُ وأطِلْ فَقْرَهُ وَعَرِّضْهُ لِلفِتَنِ قَالَ وَكَانَ بَعْدُ إذَا سُئِلَ يَقُولُ شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ أصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ.
قالَ عَبْدُ المَلِكِ فَأنَا رَأيْتُهُ بَعْدُ قَدْ سَقَطَ حاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِن الكِبَرِ وإنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي فِي الطُّرُقِ يَغْمزُهُنَّ
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَإِنِّي كنت أُصَلِّي بهم صَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَلَا نزاع فِي قِرَاءَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صلَاته دَائِما، وَهُوَ يدل على وجوب الْقِرَاءَة، لَكِن التطابق إِنَّمَا يكون فِي الْجُزْء الأول من التَّرْجَمَة وَهُوَ قَوْله: (وجوب الْقِرَاءَة للْإِمَام.
وَقَوله: (مَا أخرم عَنْهَا) أَي: عَن صَلَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يدل على الْجُزْء الْخَامِس وَالسَّادِس من التَّرْجَمَة، وَهُوَ: الْجَهْر فِيمَا يجْهر والمخافتة فِيمَا يُخَافت، وَلَا نزاع أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يجْهر فِي مَحل الْجَهْر ويخفي فِي مَحل الْإخْفَاء، وَهَذَا القَوْل يدل أَيْضا على الْجُزْء الثَّالِث وَالرَّابِع، لِأَنَّهُ يدل على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا كَانَ يتْرك الْقِرَاءَة فِي الصَّلَاة فِي الْحَضَر وَلَا فِي السّفر، لِأَنَّهُ لم ينْقل تَركه أصلا، وَلم يبْق من التَّرْجَمَة إلاّ الْجُزْء الثَّانِي، وَهُوَ: قِرَاءَة الْمَأْمُوم، فَلَا دلَالَة فِي الحَدِيث عَلَيْهِ، وَبِهَذَا التَّقْدِير ينْدَفع اعْتِرَاض الْإِسْمَاعِيلِيّ وَغَيره، حَيْثُ قَالُوا: لَا دلَالَة فِي حَدِيث سعد على وجوب الْقِرَاءَة، وَإِنَّمَا فِيهِ تخفيفها فِي الْأُخْرَيَيْنِ عَن الْأَوليين،.

     وَقَالَ  ابْن بطال: وَجه دُخُول حَدِيث سعد فِي هَذَا الْبابُُ أَنه لما قَالَ: أركد وأخف، علم أَنه لَا يتْرك الْقِرَاءَة فِي شَيْء من صلَاته، وَقد قَالَ: إِنَّهَا مثل صلَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قلت: هَذَا قريب مِمَّا ذكرنَا، وَلَكِن لَا يدل على وجوب الْقِرَاءَة على الْمَأْمُوم.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي فَإِن قلت: مَا وَجه تعلقه بالترجمة؟ قلت: وَجهه أَن ركود الإِمَام يدل على قِرَاءَته عَادَة، فَهُوَ دَال على بعض التَّرْجَمَة انْتهى.
قلت: لَيْسَ الْأَمر كَذَلِك، بل يدل على كل التَّرْجَمَة مَا خلا قَوْله: الْمَأْمُوم، فَمن أمعن النّظر فِيمَا قَالُوا وَفِيمَا قلت عرف أَن الْوَجْه هُوَ الَّذِي ذكرته على مَا لَا يخفى.

ذكر الرِّجَال الْمَذْكُورين فِيهِ الأول: مُوسَى بن إِسْمَاعِيل الْمنْقري التَّبُوذَكِي.
الثَّانِي أَبُو عوَانَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة: واسْمه الوضاح، بِفَتْح الْوَاو وَتَشْديد الضَّاد الْمُعْجَمَة وبعدالألف حاء مُهْملَة: ابْن عبد الله الْيَشْكُرِي، مَاتَ سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَة فِي ربيع الأول.
الثَّالِث: عبد الْملك بن عُمَيْر مصغر عَمْرو بن سُوَيْد الْكُوفِي، وَكَانَ قد أدْرك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وروى عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، مَاتَ سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة فِي ذِي الْحجَّة، وَكَانَ على قَضَاء الْكُوفَة.
الرَّابِع: جَابر بن سَمُرَة بن جُنَادَة العامري السوَائِي، يكنى أَبَا خَالِد، وَقيل: أَبُو عبد الله، لَهُ ولأبيه صُحْبَة، رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مائَة حَدِيث وَسِتَّة وَأَرْبَعُونَ حَدِيثا، اتفقَا على حديثين، وَانْفَرَدَ مُسلم بِسِتَّة وَعشْرين، وَهُوَ ابْن أُخْت سعد بن أبي وَقاص، سكن الْكُوفَة وابتنى بهَا دَارا، وَتُوفِّي فِي أَيَّام بشر بن مَرْوَان على الْكُوفَة بهَا، وَقيل: توفّي سنة سِتّ وَسِتِّينَ أَيَّام الْمُخْتَار.
الْخَامِس: سعد بن أبي وَقاص، وَاسم أبي وَقاص: مَالك بن أهيب، وَيُقَال: وهيب بن عبد منَاف أَبُو إِسْحَاق الزُّهْرِيّ، أحد الْعشْرَة الْمَشْهُود لَهُم بِالْجنَّةِ، مَاتَ فِي قصره بالعقيق على عشرَة أَمْيَال من الْمَدِينَة، وَحمل على رِقَاب النَّاس إِلَى الْمَدِينَة وَدفن بِالبَقِيعِ سنة خمس وَخمسين، وَهُوَ الْمَشْهُور، وَهُوَ آخر الْعشْرَة المبشرة وَفَاة، وَاخْتلف فِي عمره، فأنهى مَا قيل: ثَلَاث وَثَمَانُونَ سنة.
السَّادِس: عمر بن الْخطاب.
السَّابِع: عمار بن يَاسر الْعَبْسِي أَبُو الْيَقظَان، قتل بصفين سنة سبع وَثَلَاثِينَ، وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَتِسْعين سنة، وَصلى عَلَيْهِ أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
الثَّامِن: أُسَامَة بن قَتَادَة.
التَّاسِع: الرجل الَّذِي بَعثه سعد فِي قَوْله: فَأرْسل مَعَه رجلا، وَهُوَ: مُحَمَّد بن مسلمة بن خَالِد الْحَارِثِيّ الْأنْصَارِيّ، فِيمَا ذكره الطَّبَرِيّ وَسيف، وَحكى ابْن التِّين أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أرسل فِي ذَلِك عبد الله بن أَرقم، وَرُوِيَ ابْن سعد من طَرِيق مليح بن عَوْف قَالَ: بعث عمر مُحَمَّد بن مسلمة وَأَمرَنِي بِالْمَسِيرِ مَعَه، وَكنت دَلِيلا بالبلاد، فَهَؤُلَاءِ ثَلَاثَة أنفس.
وَقَوله فِي الحَدِيث: أَو بعث مَعَه رجَالًا، وَأَقل الْجمع ثَلَاثَة، فَيحْتَمل أَن يكون هَؤُلَاءِ الرِّجَال هم هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن شُعْبَة عَن أبي عون مُحَمَّد بن عبيد الله الثَّقَفِيّ، وَعَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَأبي النُّعْمَان، فروايتهما كِلَاهُمَا عَن أبي عوَانَة.
وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن ابْن مهْدي عَن شُعْبَة بِهِ.
وَعَن أبي كريب عَن مُحَمَّد بن بشر عَن مسعر عَن عبد الْملك بن عُمَيْر وَأبي عون الثَّقَفِيّ بِهِ، وَعَن يحيى بن يحيى عَن هشيم وَعَن قُتَيْبَة وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، كِلَاهُمَا عَن جرير عَن عبد الْملك بن عُمَيْر بِهِ.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن حَفْص بن عمر عَن شُعْبَة بِهِ، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَمْرو بن عَليّ عَن يحيى عَن شُعْبَة بِهِ، وَعَن حَمَّاد بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم عَن أَبِيه عَن دَاوُد الطَّائِي عَن عبد الْملك بن عُمَيْر فِي مَعْنَاهُ.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (شكا أهل الْكُوفَة) ، أَي: بعض أهل الْكُوفَة، لِأَن كلهم مَا شكوه، وَفِيه مجَاز من إِطْلَاق اسْم الْكل على الْبَعْض، وَفِي رِوَايَة زَائِدَة عَن عبد الْملك فِي صَحِيح أبي عوَانَة: (نَاس من أهل الْكُوفَة) ، وَكَذَا فِي مُسْند إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه عَن جرير عَن عبد الْملك، وَسمي الطَّبَرِيّ وَسيف عَنْهُم جمَاعَة وهم: الْجراح بن سِنَان وَقبيصَة واربد الأسديون، وروى عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن عبد الْملك عَن جَابر بن سَمُرَة قَالَ: (كنت جَالِسا عِنْد عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِذا جَاءَ أهل الْكُوفَة يَشكونَ إِلَيْهِ سعد ابْن أبي وَقاص حَتَّى قَالُوا: إِنَّه لَا يحسن الصَّلَاة) .
وَأما الْكُوفَة فَذكر الْكَلْبِيّ أَنَّهَا إِنَّمَا سميت الْكُوفَة بجبل صَغِير اختطت عَلَيْهِ مهرَة، فهم حوله، وَكَانَ مرتفعا فسهلوه الْيَوْم، وَكَانَ يُقَال لَهُ: كوفان، وَكَانَ عَاشر كسري يجلس عَلَيْهِ وَفِي (الزَّاهِر) لِابْنِ الْأَنْبَارِي: سميت كوفة لاستدارتها، أخذا من قَول الْعَرَب: رَأَيْت كوفانا وكوفانا بِضَم الْكَاف وَفتحهَا، للرملة المستديرة، وَيُقَال: سميت كوفة لِاجْتِمَاع النَّاس بهَا، من قَوْلهم: قد تكوف الرجل يتكوف تكوفا.
إِذا ركب بعضه بَعْضًا.
وَيُقَال: الْكُوفَة أخذت من الكوفان، يُقَال: هم فِي كوفان، أَي: فِي بلَاء وَشر، وَيُقَال: سميت كوفة لِأَنَّهَا قِطْعَة من الْبِلَاد، من قَول الْعَرَب: قد أَعْطَيْت فلَانا كيفة، أَي: قِطْعَة.
يُقَال: كفت أكيف كيفا إِذا قطعت، فالكوفة فعلة من هَذَا، وَالْأَصْل فِيهَا: كيفة، فَلَمَّا سكنت الْيَاء وانضم مَا قبلهَا جعلت واوا.
.

     وَقَالَ  قطرب: يُقَال: الْقَوْم فِي كوفان أَي: محرقون فِي أَمر يجمعهُمْ.
.

     وَقَالَ  أَبُو الْقَاسِم الزجاجي: سميت كوفة بموضعها من الأَرْض، وَذَلِكَ أَن كل رَملَة يخالطها حَصْبَاء تسمى كوفة.
.

     وَقَالَ  آخَرُونَ: سميت كوفة لِأَن جبل سانيد يُحِيط بهَا كالكفاف عَلَيْهَا،.

     وَقَالَ  ابْن حوقل: الْكُوفَة على الْفُرَات وبناؤها كبناء الْبَصْرَة، مصّرها سعد بن أبي وَقاص، وَهِي خطط لقبائل الْعَرَب وَهِي خراج بِخِلَاف الْبَصْرَة، لِأَن ضيَاع الْكُوفَة قديمَة جَاهِلِيَّة وضياع الْبَصْرَة إحْيَاء موَات فِي الْإِسْلَام، وَفِي (مُعْجم مَا استعجم) : سميت الْكُوفَة لِأَن سَعْدا لما افْتتح الْقَادِسِيَّة نزل الْمُسلمُونَ الإكار، فَإِذا هم أليق، فَخرج فارتاد لَهُم مَوضِع الْكُوفَة،.

     وَقَالَ : تكوفوا فِي هَذَا الْموضع أَي: اجْتَمعُوا.
.

     وَقَالَ  مُحَمَّد بن سهل: كَانَت الْكُوفَة منَازِل نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَهُوَ الَّذِي بنى مَسْجِدهَا.
.

     وَقَالَ  اليعقوبي فِي كِتَابه: هِيَ مَدِينَة الْعرَاق الْكُبْرَى والمصر الْأَعْظَم وقبة الْإِسْلَام وَدَار هِجْرَة الْمُسلمين، وَهِي أول مَدِينَة اختط الْمُسلمُونَ بالعراق فِي سنة أَربع عشرَة، وَهِي على مُعظم الْفُرَات وَمِنْه تشرب أَهلهَا، وَمن بَغْدَاد إِلَيْهَا ثَلَاثُونَ فرسخا.
وَفِي (تَارِيخ الطَّبَرِيّ) : لما احتوى الْمُسلمُونَ الأنبار كتب سعد إِلَى عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يُخبرهُ بذلك، فَكتب إِلَيْهِ: أنظر فلاة إِلَى جَانب الْبَحْر فارتاد الْمُسلمُونَ بهَا منزلا، فَبعث سعد رجلا من الْأَنْصَار يُقَال لَهُ: الْحَارِث بن سَلمَة، وَيُقَال: عُثْمَان بن الحنيف، فارتاد لَهُم موضعا من الْكُوفَة.
وَفِي (الصِّحَاح) : الْكُوفَة الرملة الْحَمْرَاء، وَبهَا سميت الْكُوفَة.
قَوْله: (عمارا) هُوَ عمار بن يَاسر، وَقد ذَكرْنَاهُ.
.

     وَقَالَ  خَليفَة: اسْتعْمل عمارا على الصَّلَاة وَابْن مَسْعُود على بَيت المَال وَعُثْمَان بن الحنيف على مساحة الأَرْض.
قَوْله: (فشكوا) قَالَ بَعضهم: لَيست هَذِه: الْفَاء، عاطفة على: فَعَزله، بل هِيَ تفسيرية، إِذْ الشكوى كَانَت سَابِقَة على الْعَزْل.
قلت: الْفَاء، إِذا كَانَت تفسيرية لَا تخرج عَن كَونهَا عاطفة، وَلَيْسَت الْفَاء هَهُنَا عطفا على: فَعَزله، وَإِنَّمَا هِيَ عطف على قَوْله: (شكا أهل الْكُوفَة) ، عطف تَفْسِير.
وَقَوله: ((فَعَزله وَاسْتعْمل عَلَيْهِم عمارا) جملَة مُعْتَرضَة.
قَوْله: (حَتَّى ذكرُوا أَنه لَا يحسن يُصَلِّي) ، هَذَا يدل على أَن شكواهم كَانَت مُتعَدِّدَة، مِنْهَا قصَّة الصَّلَاة، وَصرح فِي رِوَايَة: (فَقَالَ عمر: لقد شكوك فِي كل شَيْء حَتَّى فِي الصَّلَاة) .
وَمِنْهَا: مَا ذكره ابْن سعد وَسيف: أَنهم زَعَمُوا أَنه حابى فِي بيع خمس بَاعه، وَأَنه صنع على دَاره بابُُا مبوبا من خشب، وَكَانَ السُّوق مجاورا لَهُ، فَكَانَ يتَأَذَّى بأصواتهم، فزعموا أَنه قَالَ: لينقطع الصويت.
وَمِنْهَا: مَا ذكره سيف: أَنهم زَعَمُوا أَنه كَانَ يلهيه الصَّيْد عَن الْخُرُوج فِي السَّرَايَا.
.

     وَقَالَ  الزبير بن بكار فِي كتاب (النّسَب) : رفع أهل الْكُوفَة عَلَيْهِ أَشْيَاء كشفها عمر فَوَجَدَهَا بَاطِلَة، وَيشْهد لذَلِك قَول عمر فِي وَصيته.
فَإِنِّي لم أعزله عَن عجز وَلَا خِيَانَة، وَكَانَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَمر سعد بن أبي وَقاص على قتال الْفرس فِي سنة أَربع عشرَة، فَفتح الله تَعَالَى الْعرَاق على يَدَيْهِ ثمَّ اختط الْكُوفَة سنة سبع عشرَة، وَاسْتمرّ عَلَيْهَا أَمِيرا، إِلَى سنة إِحْدَى وَعشْرين فِي قَول خَليفَة بن خياط، وَعند الطَّبَرِيّ: سنة عشْرين، فَوَقع لَهُ مَعَ أهل الْكُوفَة مَا وَقع.
قَوْله: (فَأرْسل إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا أَبَا إِسْحَاق) ، فِيهِ حذف تَقْدِيره: فوصل إِلَيْهِ، أَي: الرَّسُول، فجَاء إِلَى عمر.
وَأَبُو إِسْحَاق كنية سعد، كنى بذلك بأكبر أَوْلَاده، وَهَذَا تَعْظِيم من عمر لَهُ، وَفِيه دلَالَة على أَنه لم تقدح فِيهِ الشكوى عِنْده.
قَوْله: (أما إِنَّا وَالله) كلمة: اما، بِالتَّشْدِيدِ وَهِي للتقسيم، وَفِيه مُقَدّر لِأَنَّهُ لَا بُد لَهَا من قسيم تَقْدِيره: أما هم فَقَالُوا مَا قَالُوا، وَأما أَنا فَأَقُول: إِنِّي كنت كَذَا.
.
وَلَفْظَة: وَالله لتأكيد الْخَبَر فِي نفس السَّامع، وَكَانَ الْقيَاس أَن يُؤَخر لَفْظَة: وَالله، عَن الْفَاء، وَلَكِن يجوز تَقْدِيم بعض مَا هُوَ فِي حيزها عَلَيْهَا، وَالْقسم لَيْسَ أَجْنَبِيّا وَجَوَاب الْقسم مَحْذُوف، وَقَوله: (فَإِنِّي كنت) ، يدل عَلَيْهِ، ويروى: إِنِّي كنت، بِدُونِ الْفَاء.
قَوْله: (صَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) بِالنّصب أَي: صَلَاة مثل صلَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: (مَا أخرم) ، بِفَتْح الْهمزَة وَكسر الرَّاء، أَي: لَا أنقص وَمَا أقطع، وَحكى ابْن التِّين عَن بعض الروَاة أَنه بِضَم أَوله.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: جعله من الرباعي.
قلت: لَيْسَ من الرباعي، بل هُوَ من مزِيد الثلاثي، لِأَن الِاصْطِلَاح هَكَذَا عِنْد أهل الصّرْف.
قَوْله: (صَلَاة الْعشَاء) ، كَذَا هُوَ هَهُنَا بِالْإِفْرَادِ، وَفِي الْبابُُ الَّذِي بعده: صَلَاتي الْعشَاء، بالتثنية، والعشي، بِكَسْر الشين وَتَشْديد الْيَاء، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (بعد صَلَاتي الْعشَاء) ، وَالْمرَاد من صَلَاتي الْعشَاء الظّهْر وَالْعصر، وَلَا يبعد أَن يُقَال: صَلَاتي الْعشَاء بِالْمدِّ، وَيكون المُرَاد: الْمغرب وَالْعشَاء، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي (مُسْنده) عَن أبي عوَانَة بِلَفْظ: (صَلَاتي الْعشَاء) ، وَوجه تَخْصِيص صَلَاة الْعشَاء بِالذكر من بَين الصَّلَوَات لاحْتِمَال كَون شكواهم مِنْهُ فِي هَذِه الصَّلَوَات، أَو لِأَنَّهُ لما لم يهمل شَيْئا من هَذِه الَّتِي وَقتهَا وَقت الاسْتِرَاحَة، فَفِي غَيرهَا بِالطَّرِيقِ الأولى، قَالَه الْكرْمَانِي، وَلَكِن يُقَال مثله فِي الظّهْر لِأَنَّهُ وَقت القائلة، وَالْعصر لِأَنَّهُ وَقت المعاش، وَالصُّبْح لِأَنَّهُ وَقت لَذَّة النّوم، وَالْأَقْرَب أَن يُقَال: الْوَجْه هُوَ أَن شكواهم كَانَت فِي صَلَاتي الْعشي، فَلذَلِك خصصهما بِالذكر.
قَوْله: (فأركد) ، بِضَم الْكَاف أَي: أسكن وأمكث فِي الْأَوليين، أَي: الرَّكْعَتَيْنِ الْأَوليين، يُقَال: ركد يركد ركودا، إِذا ثَبت ودام، وَمِنْه المَاء الراكد أَي: السَّاكِن الدَّائِم، وركدت السَّفِينَة سكنت من الِاضْطِرَاب، وركد الرّيح سكن، وَفِي رِوَايَة لمُسلم: (وأمد فِي الْأَوليين) بدل: فأركد، وَهُوَ بِمَعْنَاهُ أَي: أطول وأمد، ثمَّ الظَّاهِر أَن مده وتطويله كَانَ بِكَثْرَة الْقِرَاءَة، وَلَا يُقَال: كَانَ ذَلِك بِمَا هُوَ أَعم من الْقِرَاءَة كالركوع وَالسُّجُود، لِأَن الْقيام لَيْسَ محلا للدُّعَاء وَلَا لمُجَرّد السُّكُوت، وَإِنَّمَا هُوَ مَحل الْقِرَاءَة.
قَوْله: (وأخف) بِضَم الْهمزَة وَكسر الْخَاء الْمُعْجَمَة من بابُُ الإفعال، يُقَال: أخف الرجل فِي أمره يخف فَهُوَ مخف، وَفِي الْكشميهني: أحذف، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وَكسر الذَّال الْمُعْجَمَة: أَي أحذف التَّطْوِيل، وَلَيْسَ المُرَاد حذف أصل الْقِرَاءَة، وَفِيه خلاف نذكرهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الدَّارمِيّ عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل شيخ البُخَارِيّ بِلَفْظ: أحذف، وَوَقع فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من رِوَايَة مُحَمَّد بن كثير عَن شُعْبَة: احذم، بِالْمِيم مَوضِع الْفَاء، من: حذم يحذم حذما إِذا أسْرع.
وأصل الحذم الْإِسْرَاع فِي كل شَيْء، وَمِنْه حَدِيث عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (إِذا أَقمت فاحذم) أَي: اسرع.
قَوْله: (فِي الْأُخْرَيَيْنِ) أَي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ.
قَوْله: (ذَاك الظَّن) ، جملَة إسمية من الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر، ويروي: ذَلِك الظَّن، وَقَوله: (بك) ، يتَعَلَّق بِالظَّنِّ، أَي: هَذَا الَّذِي تَقوله يَا أَبَا إِسْحَاق هُوَ الَّذِي يظنّ بك، وَفِي رِوَايَة مسعر عَن عبد الْملك وَأبي عون مَعًا، فَقَالَ سعد: أتعلمني الْأَعْرَاب الصَّلَاة؟ أخرجه مُسلم، وَفِيه دلَالَة على أَن الَّذِي شكوه كَانُوا جُهَّالًا، لِأَن الْجَهَالَة فيهم غالبة، والأعراب، بِفَتْح الْهمزَة، ساكنو الْبَادِيَة من الْعَرَب الَّذين لَا يُقِيمُونَ فِي الْأَمْصَار وَلَا يدْخلُونَهَا إلاّ لحَاجَة، وَالْعرب اسْم لهَذَا الجيل الْمَعْرُوف من النَّاس وَلَا وَاحِد لَهُ من لَفظه، وَسَوَاء أَقَامَ بالبادية أَو المدن.
قَوْله: (فَأرْسل مَعَه رجلا) أَي: أرسل عمر مَعَ سعد رجلا، وَقد ذكرنَا من هُوَ الرجل.
قَالَ الْكرْمَانِي: إِن كَانَ سعد غَائِبا فَكيف خاطبه بقوله: (ذَاك الظَّن بك) ؟ وَإِن كَانَ حَاضرا فَكيف قَالَ: فَأرْسل إِلَيْهِ؟ ثمَّ أجَاب بقوله: كَانَ غَائِبا أَو لَا ثمَّ حضر.
انْتهى.
قلت: لفظ الحَدِيث: (فَأرْسل مَعَه) ، كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَلَا يَتَأَتَّى مَا ذكره إلاّ إِذا كَانَ اللَّفْظ: فَأرْسل إِلَيْهِ، وَلَيْسَ كَذَلِك.
قَوْله: (أَو رجَالًا) كَذَا هُوَ بِالشَّكِّ، وَفِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة: فَبعث عمر رجلَيْنِ، وَقد ذَكرْنَاهُ.
قَوْله: (يسْأَل عَنهُ أهل الْكُوفَة) ، أَي: يسْأَل عَن سعد أهل الْكُوفَة كَيفَ حَاله بَينهم؟ ويروى: (فَسَأَلَ عَنهُ) ، وَوجه ذَلِك أَنه مَعْطُوف على مُقَدّر تَقْدِيره: فَأرْسل رجلا إِلَى الْكُوفَة فَانْتهى إِلَيْهَا فَسَأَلَ عَنهُ، وَمثل هَذِه الْفَاء تسمى: فَاء الفصيحة، وَأما وَجهه على قَوْله: يسْأَل عَنهُ، بِلَفْظ الْمُضَارع الْغَائِب فَهُوَ من الْأَحْوَال الْمقدرَة المنتظرة، قَوْله: (وَلم يدع) أَي: لم يتْرك الرجل الْمَبْعُوث الْمُرْسل مَسْجِدا من مَسَاجِد الْكُوفَة إلاّ سَأَلَ عَنهُ، أَي: عَن سعد.
قَوْله: (ويثنون مَعْرُوفا) أَي: وَالْحَال أَن أهل الْكُوفَة يثنون عَلَيْهِ مَعْرُوفا، وَهُوَ كل أَمر خير، وَفِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة: فكلهم يثني عَلَيْهِ خيرا.
قَوْله: (لبني عبس) ، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره سين مُهْملَة، وَهُوَ قَبيلَة كَبِيرَة من قيس.
قَوْله: (أما إِذا نَشَدتنَا) كلمة: أما، بِالتَّشْدِيدِ للتفصيل والتقسيم، والقسيم مَحْذُوف تَقْدِيره: أما غَيْرِي إِذا أنشدتنا، أَي: حِين نَشَدتنَا، فَأَثْنوا عَلَيْهِ، وَأما نَحن إِذا سألتنا فَنَقُول كَذَا وَكَذَا، وَمعنى: نَشَدتنَا أَي: سألتنا بِاللَّه، يُقَال: نشدتك الله، سَأَلتك بِاللَّه.
قَوْله: (لَا يسير بالسرية) ، الْبَاء فِيهِ للمصاحبة، والسرية، بتَخْفِيف الرَّاء وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، قِطْعَة من الْجَيْش يبلغ أقصاها أَرْبَعمِائَة تبْعَث إِلَى الْعَدو، وَجَمعهَا: السَّرَايَا، سموا بذلك لأَنهم يكونُونَ خُلَاصَة الْعَسْكَر وخيارهم، من الشَّيْء السّري أَي: النفيس.
وَقيل: سموا ذَلِك لأَنهم ينفذون سرا وخفية، وَلَيْسَ بِالْوَجْهِ، لِأَن: لَام، السِّرّ: رَاء، وَهَذِه: يَاء، وَقيل: يحْتَمل أَن تكون صفة الْمَحْذُوف، أَي: لَا يسير بالطريقة السّريَّة أَي: العادلة، وَالْأولَى أولى وأوجه لقَوْله بعد ذَلِك: لَا يعدل، وَالْأَصْل عدم التّكْرَار، والتأسيس أولى من التَّأْكِيد، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة جرير وسُفْيَان بِلَفْظ: (وَلَا ينفر فِي السّريَّة) .
قَوْله: (فِي الْقَضِيَّة) ، أَي: الْحُكُومَة وَالْقَضَاء، وَفِي رِوَايَة جرير وَسيف: فِي الرّعية.
قَوْله: (قَالَ سعد) ، وَفِي رِوَايَة جرير: (فغض سعد) ، وَحكى ابْن التِّين أَنه قَالَ لَهُ: أَعلَى تشجع: قَوْله: (أما وَالله) ، بتَخْفِيف الْمِيم حرف استفتاح.
قَوْله: (لأدعون) ، اللَّام فِيهِ للتَّأْكِيد، وَكَذَلِكَ نون التَّأْكِيد المثقلة أَي: لأدعون عَلَيْك بِثَلَاث دعوات.
قَوْله: (قَامَ) أَي: فِي هَذِه الْقَضِيَّة.
قَوْله: (وَسُمْعَة) ، بِضَم السِّين أَي: ليراه النَّاس ويسمعون وَيشْهدُونَ ذَلِك عَنهُ، ليَكُون لَهُ بذلك ذكر.
قَوْله: (فأطل عمره) مُرَاده أَن يطول فِي غَايَة بِحَيْثُ يرد إِلَى أَسْفَل السافلين وَيصير إِلَى أرذل الْعُمر، ويضعف قواه وينتكس فِي الْخلق محنة لَا نعْمَة، أَو مُرَاده: طول الْعُمر مَعَ طول الْفقر، وَهَذَا أَشد مَا يكون فِي الرجل، وَيحصل الْجَواب بذلك عَمَّا قيل: الدُّعَاء بطول الْعُمر دُعَاء لَهُ لَا دُعَاء عَلَيْهِ.
قَوْله: (وأطل فقره) وَفِي رِوَايَة جرير: (وَشد فقره) ، وَفِي رِوَايَة سيف: (وَأكْثر عِيَاله) .
وَهَذِه الْحَالة بئست الْحَالة وَفِي: طول الْعُمر مَعَ الْفقر وَكَثْرَة الْعِيَال.
قَوْله: (وَعرضه للفتن) أَي: اجْعَلْهُ عرضة للفتن، أَو أدخلهُ فِي معرضها أَي: أظهره بهَا.
وَالْحكمَة فِي هَذِه الدَّعْوَات الثَّلَاث أَن أُسَامَة بن قَتَادَة الْمَذْكُور نفى عَن سعد الْفَضَائِل الثَّلَاث الَّتِي هِيَ أصُول الْفَضَائِل وَأُمَّهَات الكمالات، وَهِي: الشجَاعَة الَّتِي هِيَ الْقُوَّة الغضبية حَيْثُ قَالَ: لَا يسير بالسرية، والعفة: الَّتِي هِيَ كَمَال الْقُوَّة الشهوانية، حَيْثُ قَالَ: لَا يقسم بالسرية، وَالْحكمَة: الَّتِي هِيَ كَمَال الْقُوَّة الْعَقْلِيَّة، حَيْثُ قَالَ: وَلَا يعدل فِي الْقَضِيَّة، فالثلاثة تتَعَلَّق بِالنَّفسِ وَالْمَال وَالدّين، فقابل سعد هَذِه الثَّلَاثَة بِثَلَاثَة مثلهَا، فَدَعَا عَلَيْهِ بِمَا يتَعَلَّق بِالنَّفسِ: وَهُوَ طول الْعُمر، وَبِمَا يتَعَلَّق بِالْمَالِ: وَهُوَ الْفقر، وَبِمَا يتَعَلَّق بِالدّينِ: وَهُوَ الْوُقُوع فِي الْفِتَن.
ثمَّ إعلم أَنه كَانَ يُمكن الإعتذار عَن قَوْله: (وَلَا ينفر بالسرية) بِأَن يُقَال: رأى الْمصلحَة فِي إِقَامَته ليرتب مصَالح من يَغْزُو وَمن يُقيم، أَو كَانَ لَهُ عذر مَانع من ذَلِك، كَمَا وَقع لَهُ فِي الْقَادِسِيَّة، وَكَذَا يُمكن الإعتذار عَن قَوْله: (وَلَا يقسم بِالسَّوِيَّةِ) ، بِأَن يُقَال: إِن للْإِمَام تَفْضِيل بعض النَّاس بِشَيْء يخْتَص بِهِ لمصْلحَة يَرَاهَا فِي ذَلِك، وَأما قَوْله: (وَلَا يعدل فِي الْقَضِيَّة) فَلَا خلاص عَنهُ، لِأَنَّهُ سلب عَنهُ الْعدْل بِالْكُلِّيَّةِ، وَذَلِكَ قدح فِي الدّين.
قَوْله: (فَكَانَ بعد) ، ويروى: (وَكَانَ بعد) ، بِالْوَاو أَي: كَانَ أُسَامَة بعد ذَلِك، قيل: هَذَا عبد الْملك بن عُمَيْر، بَينه جرير فِي رِوَايَته.
قَوْله: (إِذا سُئِلَ) ، على صِيغَة الْمَجْهُول أَي: إِذا سُئِلَ أُسَامَة عَن حَال نَفسه، وَفِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة إِذا قيل لَهُ: كَيفَ أَنْت؟ يَقُول: أَنا شيخ كَبِير مفتون.
فَقَوله: شيخ كَبِير خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، وَهُوَ: أَنا، كَمَا قُلْنَا، و: كَبِير، صفته، وَقَوله: مفتون، صفة بعد صفة.
فَقَوله: شيخ كَبِير، إِشَارَة إِلَى الدعْوَة الأولى، ومفتون، إِلَى الدعْوَة الثَّالِثَة، وَإِنَّمَا لم يشر إِلَى الدعْوَة الثَّانِيَة وَهِي قَوْله: (وأطل فقره) ، لِأَنَّهَا تدخل فِي عُمُوم قَوْله: (أصابتني دَعْوَة سعد) ، وَقد صرح بذلك فِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ من طَرِيق أَسد بن مُوسَى، وَفِي رِوَايَة أبي يعلى: عَن إِبْرَاهِيم بن حجاج كِلَاهُمَا عَن أبي عوَانَة، وَلَفظه: (قَالَ عبد الْملك: فَأَنا رَأَيْته يتَعَرَّض للإماء فِي السكَك، فَإِذا سَأَلُوهُ قَالَ: كَبِير فَقير مفتون) .
وَفِي رِوَايَة إِسْحَاق عَن جرير: (فافتقر وافتتن) .
وَفِي رِوَايَة: (فَعميَ وَاجْتمعَ عِنْده عشر بَنَات، وَكَانَ إِذا سمع بِحسن المراة تشبث بهَا، فَإِذا أنكر عَلَيْهِ قَالَ: دَعْوَة الْمُبَارك سعد) .
وَفِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة: (وَلَا تكون فتْنَة إلاّ وَهُوَ فِيهَا) .
وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بن حجادة: عَن مُصعب ابْن سعد فِي هَذِه الْقِصَّة، قَالَ: وَأدْركَ فتْنَة الْمُخْتَار، فَقتل فِيهَا.
وَعند ابْن عَسَاكِر: وَكَانَت فتْنَة الْمُخْتَار حِين غلب على الْكُوفَة من سنة خمس وَسِتِّينَ إِلَى أَن قتل سنة سبع وَسبعين.
قَوْله: (أصابتني دَعْوَة سعد) إِنَّمَا أفرد الدعْوَة، مَعَ أَنَّهَا كَانَت ثَلَاث دعوات، لِأَنَّهُ أَرَادَ بهَا الْجِنْس، فَكَانَ سعد مَعْرُوفا بإجابة الدعْوَة.
روى الطَّبَرَانِيّ من طَرِيق الشّعبِيّ قَالَ: (قيل لسعد: مَتى أصبت الدعْوَة؟ قَالَ: يَوْم بدر، قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اللَّهُمَّ استجب لسعد) ، وروى التِّرْمِذِيّ وَابْن حبَان وَالْحَاكِم من طَرِيق قيس بن أبي حَازِم عَن سعد أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (اللَّهُمَّ استجب لسعد إِذا دعَاك) .
قَوْله: (من الْكبر) ، بِكَسْر الْكَاف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة، قَوْله: (وَإنَّهُ) أَي: إِن أُسَامَة الْمَذْكُور.
قَوْله: (يغمزهن) ، أَي: يعصر أعضاءهن بالأصابع، وَفِيه أَيْضا إِشَارَة إِلَى الْفِتْنَة، وَإِلَى الْفقر أَيْضا إِذْ لَو كَانَ غَنِيا لما احْتَاجَ إِلَى غمز الْجَوَارِي فِي الطّرق.

: ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: وَهُوَ على وُجُوه:
: الأول: وجوب الْقِرَاءَة فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَوليين من الصَّلَوَات وَعدم وُجُوبهَا فِي الْأُخْرَيَيْنِ، وَاسْتدلَّ بعض أَصْحَابنَا لأبي حنيفَة، وَمن قَالَ بقوله فِي عدم وجوب الْقِرَاءَة فِي الْأُخْرَيَيْنِ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور، وَعَن هَذَا قَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) وَغَيره: إِن شَاءَ قَرَأَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ وَإِن شَاءَ سبح وَإِن شَاءَ سكت، وَهُوَ الْمَأْثُور عَن عَليّ وَابْن مَسْعُود وَعَائِشَة، إِلَّا أَن الْأَفْضَل أَن يقْرَأ.
.

     وَقَالَ  أَصْحَابنَا: الْمُصَلِّي مَأْمُور بِالْقِرَاءَةِ بقوله تَعَالَى:: { فاقرأوا مَا تيَسّر مِنْهُ} (المزمل: 20) .
وَالْأَمر لَا يَقْتَضِي التّكْرَار، فتتعين الرَّكْعَة الأولى مِنْهَا، وَإِنَّمَا أوجبناها فِي الثَّانِيَة اسْتِدْلَالا بِالْأولَى، لِأَنَّهُمَا تتشاكلان من كل وَجه، وَقد ذكرنَا فِيمَا مضى أَن الْقِرَاءَة فِي الصَّلَاة مُسْتَحبَّة غير وَاجِبَة عِنْد جمَاعَة مِنْهُم الْأَحْمَر وَابْن علية وَالْحسن بن صَالح والأصم، وروى الشَّافِعِي عَن مَالك بِإِسْنَادِهِ عَن مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن: أَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، صلى الْمغرب فَلم يقْرَأ فِيهَا شَيْئا، فَقيل لَهُ، فَقَالَ: كَيفَ كَانَ الرُّكُوع وَالسُّجُود؟ قَالُوا: حسن.
قَالَ: فَلَا بَأْس.
قُلْنَا هَذَا مُنْقَطع بَين مُحَمَّد بن عَليّ وَبَين عمر، وَفِي إِسْنَاده أَيْضا مَجْهُول.
وَفِي (شرح مُسْند الشَّافِعِي) لِأَبْنِ الْأَثِير: روى الشّعبِيّ عَن زِيَاد بن عِيَاض عَن أبي مُوسَى: صلى عمر فَلم يقْرَأ شَيْئا فَأَعَادَ، قَالَ: وَرَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم عَن عمر: أَنه صلى الْمغرب فَلم يقْرَأ فَأَعَادَ، وروى الشَّافِعِي، فِيمَا بلغه عَن زيد بن حبَان: عَن سُفْيَان عَن أبي إِسْحَاق عَن أبي الْحَارِث عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ لَهُ رجل: إِنِّي صليت فَلم أَقرَأ.
قل: أتممت الرُّكُوع وَالسُّجُود؟ قَالَ: نعم.
قَالَ: تمت صَلَاتك.
.

     وَقَالَ  ابْن الْمُنْذر: روينَا عَن عَليّ أَنه قَالَ: إقرأ فِي الْأَوليين وَسبح فِي الْأُخْرَيَيْنِ.
وَعَن مَالك رِوَايَة شَاذَّة إِن الصَّلَاة صَحِيحَة بِدُونِ الْقِرَاءَة،.

     وَقَالَ  ابْن الْمَاجشون: من ترك الْقِرَاءَة فِي رَكْعَة من الصُّبْح أَو أَي صَلَاة كَانَت تجزيه سجدتا السَّهْو.
وروى الْبَيْهَقِيّ عَن زيد بن ثَابت: الْقِرَاءَة فِي الصَّلَاة سنة.
وَعَن الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم: إِن تَركهَا نَاسِيا صحت صلَاته.
وَفِي (المُصَنّف) من جِهَة أبي إِسْحَاق عَن عَليّ وَعبد الله بن مَسْعُود، أَنَّهُمَا قَالَا: إقرأ فِي الْأَوليين وَسبح فِي الْأُخْرَيَيْنِ.
وَعَن مَنْصُور، قَالَ: قلت لإِبْرَاهِيم: مَا نَفْعل فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ من الصَّلَاة؟ قَالَ: سبح وَاحْمَدْ الله وَكبر.
وَعَن الْأسود وَإِبْرَاهِيم وَالثَّوْري كَذَلِك.

الْوَجْه الثَّانِي: اسْتدلَّ بقوله: (أركد فِي الْأَوليين) من يرى تَطْوِيل الرَّكْعَتَيْنِ الْأَوليين على الْأُخْرَيَيْنِ فِي الصَّلَوَات كلهَا، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي، حَكَاهُ فِي (الْمُهَذّب) .
وَفِي (الرَّوْضَة) : الْأَصَح التَّسْوِيَة بَينهمَا وَبَين الثَّالِثَة وَالرَّابِعَة، قَالَ: وَالْمُخْتَار تَطْوِيل أولى الْفجْر على الثَّانِيَة وَغَيرهَا، وَهُوَ قَول مُحَمَّد بن الْحسن وَالثَّوْري وَأحمد بن حَنْبَل، وَعند أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف: لَا يُطِيل الرَّكْعَة الأولى على الثَّانِيَة إلاّ فِي الْفجْر خَاصَّة.
وَفِي (شرح الْمُهَذّب) لِأَصْحَابِنَا وَجْهَان، أشهرهما: لَا يطول، وَالثَّانِي: يسْتَحبّ تَطْوِيل الْقِرَاءَة فِي الأولى قصدا، وَهُوَ الصَّحِيح الْمُخْتَار، وَاتَّفَقُوا على كَرَاهَة إطالة الثَّانِيَة على الأولى إلاّ مَالِكًا، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا بَأْس أَن يُطِيل الثَّانِيَة على الأولى، مستدلاً بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرَأَ فِي الرَّكْعَة الأولى: بِسُورَة الْأَعْلَى، وَهِي تسع عشرَة آيَة، وَفِي الثَّانِيَة: بالغاشية وَهِي سِتّ وَعِشْرُونَ آيَة.
وَفِي الصَّلَاة لأبي نعيم: حَدثنَا شَيبَان عَن عبد الله بن أبي قَتَادَة عَن أَبِيه: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يطول فِي الرَّكْعَة الأولى من الظّهْر وَالْعصر وَالْفَجْر، وَيقصر فِي الْأُخْرَى، فَإِن جهر فِيمَا يُخَافت فِيهِ أَو خَافت فِيمَا يجْهر فِيهِ، فَعِنْدَ أبي حنيفَة يسْجد للسَّهْو، وَعَن أبي يُوسُف: إِن جهر بِحرف يسْجد، وَفِي رِوَايَة عَنهُ: إِن زَاد فِيمَا يُخَافت فِيهِ على مَا يسمع أُذُنَيْهِ فَتجب سجدتا السَّهْو، وَالصَّحِيح أَنَّهَا تجب إِذا جهر مِقْدَار مَا تجوز بِهِ الصَّلَاة، وَفِي (المُصَنّف) : مِمَّن كَانَ يجْهر بِالْقِرَاءَةِ فِي الظّهْر وَالْعصر خبابُ بن الْأَرَت وَسَعِيد بن جُبَير وَالْأسود وعلقمة، وَعَن جَابر قَالَ: سَأَلت الشّعبِيّ وسالما وَقَاسما وَالْحكم ومجاهدا وَعَطَاء عَن الرجل يجْهر فِي الظّهْر وَالْعصر؟ فَقَالُوا: لَيْسَ عَلَيْهِ سَهْو.
وَعَن قَتَادَة: أَن أنسا جهر فيهمَا فَلم يسْجد، وَكَذَا فعله سعيد بن الْعَاصِ إِذْ كَانَ أَمِيرا بِالْمَدِينَةِ.
وَفِي (التَّلْوِيح) : ويستدل لأبي حنيفَة بِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة من كتاب ابْن شاهين بِسَنَد فِيهِ كَلَام، قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا رَأَيْتُمْ من يجْهر بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاة النَّهَار فارجموه بالبعر) .
وَفِي (المُصَنّف) عَن يحيى بن كثير: (قَالُوا يَا رَسُول الله: إِن هُنَا قوما يجهرون بِالْقِرَاءَةِ بِالنَّهَارِ! فَقَالَ: ارموهم بالبعر) .
وَعَن الْحسن وَأبي عُبَيْدَة: صَلَاة النَّهَار عجماء.
.

     وَقَالَ  صَاحب (التَّلْوِيح) : وَحَدِيث ابْن عَبَّاس: صَلَاة النَّهَار عجماء، وَإِن كَانَ بعض الْأَئِمَّة قَالَ: هُوَ حَدِيث لَا أصل لَهُ بَاطِل، فَيُشبه أَن يكون لَيْسَ كَذَلِك لما أسلفناه.

الْوَجْه الثَّالِث: أَن الإِمَام إِذا شكا إِلَيْهِ نَائِبه بعث إِلَيْهِ واستفسره عَن ذَلِك فِي مَوضِع عمله عَن أهل الْفضل فيهم، لِأَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ يسْأَل عَنهُ فِي الْمَسْجِد أهل مُلَازمَة الصَّلَاة فِيهَا.
وَفِيه: جَوَاز عَزله وَإِن لم يثبت عَلَيْهِ شَيْء إِذا اقْتَضَت لذَلِك الْمصلحَة.
قَالَ مَالك: قد عزل عمر سَعْدا وَهُوَ أعدل من يَأْتِي بعده إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَالَّذِي يظْهر أَن عمر عَزله حسما لمادة الْفِتْنَة.
وَفِي رِوَايَة سيف، قَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لَوْلَا الِاحْتِيَاط وَأَن لَا يَتَّقِي من أَمِير مثل سعد لما عزلته.
وَقيل: عَزله إيثارا لقُرْبه مِنْهُ لكَونه من أهل الشورى، وَقيل: إِن مَذْهَب عمر أَن لَا يسْتَمر بالعامل أَكثر من أَربع سِنِين.
.

     وَقَالَ  الْمَازرِيّ: اخْتلفُوا هَل يعْزل القَاضِي بشكوى الْوَاحِد أَو الْإِثْنَيْنِ أَو لَا يعْزل حَتَّى يجْتَمع الْأَكْثَر على الشكوى عَنهُ.

الْوَجْه الرَّابِع: فِيهِ خطاب الرجل بكنيته والاعتذار لمن سمع فِي حَقه كَلَام يسوؤه.

الْوَجْه الْخَامِس: فِيهِ جَوَاز الدُّعَاء على الظَّالِم الْمعِين بِمَا يسْتَلْزم النَّقْص فِي دينه، وَلَيْسَ هُوَ من طلب وُقُوع الْمعْصِيَة، وَلَكِن من حَيْثُ إِنَّه يُؤَدِّي إِلَى نكاية الظَّالِم وعقوبته.
ألاَ ترى إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَيفَ دَعَا،.

     وَقَالَ : { رَبنَا اطْمِسْ على أَمْوَالهم وَاشْدُدْ على قُلُوبهم} (يُونُس: 88) .





[ قــ :735 ... غــ :756 ]
- حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ قَالَ حدَّثنا الزُّهْرِيُّ عنْ مَحْمُودِ بنِ الرَّبِيعِ عنْ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ.


مطابقته للتَّرْجَمَة غير ظَاهِرَة لِأَن التَّرْجَمَة أَعم من أَن تكون الْقِرَاءَة بِالْفَاتِحَةِ أَو بغَيْرهَا، والْحَدِيث يعين الْفَاتِحَة.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: وَفِي الحَدِيث دَلِيل على أَن قِرَاءَة الْفَاتِحَة وَاجِبَة على الإِمَام وَالْمُنْفَرد وَالْمَأْمُوم فِي الصَّلَوَات كلهَا، فَهُوَ صَرِيح فِي دلَالَته على جَمِيع أَجزَاء التَّرْجَمَة.
قلت: لَيْسَ فِي التَّرْجَمَة ذكر الْفَاتِحَة حَتَّى يدل على ذَلِك، وَإِنَّمَا فِيهَا ذكر الْقِرَاءَة، وَهِي أَعم من الْفَاتِحَة وَغَيرهَا على مَا ذكرنَا.
فَإِن قلت: لَهُ أَن يَقُول: ذكرت الْقِرَاءَة وَأَرَدْت بهَا الْفَاتِحَة من قبيل إِطْلَاق الْكل على الْجُزْء.
قلت: فَحِينَئِذٍ لَا يبْقى وَجه الْمُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة وَبَين حَدِيث سعد الْمَذْكُور، وَأَيْضًا فِيهِ ارْتِكَاب الْمجَاز من غير ضَرُورَة.

ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عَليّ بن عبد الله بن جَعْفَر الْمَدِينِيّ الْبَصْرِيّ.
الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة.
الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم ابْن شهَاب الزُّهْرِيّ.
الرَّابِع: مَحْمُود بن الرّبيع، بِفَتْح الرَّاء: ابْن سراقَة الخزرجي الْأنْصَارِيّ، ختن عبَادَة بن الصَّامِت، روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عقل عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مجة مجها فِي وَجهه من دلو فِي بِئْر فِي دَارهم وَهُوَ ابْن خمس سِنِين، مر ذكره فِي: بابُُ مَتى يَصح سَماع الصَّغِير من كتاب الْعلم.
الْخَامِس: عبَادَة بن الصَّامِت، بِضَم الْعين، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين.
وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين.
وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي ومكي ومدني.
وَفِيه: عَن مَحْمُود بن الرّبيع، وَفِي رِوَايَة الْحميدِي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة حَدثنَا الزُّهْرِيّ سَمِعت مَحْمُود بن الرّبيع، وَفِي رِوَايَة مُسلم: عَن صَالح عَن ابْن شهَاب أَن مَحْمُود بن الرّبيع أخبرهُ أَن عبَادَة بن الصَّامِت أخبرهُ، وبالتصريح بالإخبار يرد تَعْلِيل من أعله بالإنقطاع لكَون بعض الروَاة أَدخل بَين مَحْمُود وَعبادَة رجلا: قلت هَذَا الرجل هُوَ وهب بن كيسَان وَفِي الْمُسْتَدْرك قد أَدخل بَين مَحْمُود وَعبادَة وهب بن كيسَان، فِيمَا رَوَاهُ الْوَلِيد ابْن مُسلم عَن سعيد بن عبد الْعَزِيز عَن مَكْحُول عَن مَحْمُود عَن وهب، وَبَين الدَّارَقُطْنِيّ فِي ( سنَنه) : من حَدِيث زيد بن وَاقد عَن مَكْحُول: إِن دُخُول وهب فِيهِ لِأَنَّهُ كَانَ مُؤذن عبَادَة، وَأَن مَحْمُودًا ووهبا صليا خَلفه يَوْمًا، فَذكره.
.

     وَقَالَ : رِجَاله كلهم ثِقَات.
وَرَوَاهُ أَيْضا من حَدِيث ابْن إِسْحَاق عَن مَكْحُول بِهِ،.

     وَقَالَ : إِسْنَاده حسن.
.

     وَقَالَ هُ أَيْضا الْبَغَوِيّ.

ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَمْرو النَّاقِد وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، ثَلَاثَتهمْ عَن سُفْيَان وَعَن أبي الطَّاهِر وحرملة وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن عبد بن حميد وَعَن الْحسن الْحلْوانِي عَن الزُّهْرِيّ بِهِ.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن قُتَيْبَة وَأبي الطَّاهِر بن السَّرْح، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بِهِ.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن ابْن أبي عمر وَعلي بن حجر كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بِهِ.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن سُوَيْد بن نصر وَفِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن مَحْمُود بن مَنْصُور عَن سُفْيَان بِهِ.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن هِشَام بن عمار وَسَهل بن أبي سهل وَإِسْحَاق بن إِسْمَاعِيل، ثَلَاثَتهمْ عَن سُفْيَان بِهِ.

ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: اسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث عبد الله بن الْمُبَارك وَالْأَوْزَاعِيّ وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَدَاوُد على وجوب قِرَاءَة الْفَاتِحَة خلف الإِمَام فِي جَمِيع الصَّلَوَات،.

     وَقَالَ  ابْن الْعَرَبِيّ فِي ( أَحْكَام الْقُرْآن) : ولعلمائنا فِي ذَلِك ثَلَاثَة أَقْوَال: الأول: يقْرَأ اذا أسر الإِمَام خَاصَّة، قَالَه ابْن الْقَاسِم.
الثَّانِي: قَالَ ابْن وهب وَأَشْهَب فِي ( كتاب مُحَمَّد) : لَا يقْرَأ.
الثَّالِث: قَالَ مُحَمَّد بن عبد الحكم: يقْرؤهَا خلف الإِمَام، فَإِن لم يفعل أجزاه، كَأَنَّهُ رأى ذَلِك مُسْتَحبا، وَالأَصَح عِنْدِي وجوب قرَاءَتهَا فِيمَا أسر وتحريمها فِيمَا جهر، إِذا سمع قِرَاءَة الإِمَام، لما فِيهِ من فرض الْإِنْصَات لَهُ وَالِاسْتِمَاع لقرَاءَته، فَإِن كَانَ مِنْهُ فِي مقَام بعيد فَهُوَ بِمَنْزِلَة صَلَاة السِّرّ.
.

     وَقَالَ  أَبُو عمر فِي ( التَّمْهِيد) : لم يخْتَلف قَول مَالك: إِنَّه من نَسِيَهَا أَي: الْفَاتِحَة فِي رَكْعَة من صَلَاة ذَات رَكْعَتَيْنِ أَن صلَاته تبطل أصلا وَلَا تجزيه.
وَاخْتلف قَوْله فِيمَن تَركهَا نَاسِيا فِي رَكْعَة من الصَّلَاة الرّبَاعِيّة أَو الثلاثية، فَقَالَ مرّة: يُعِيد الصَّلَاة وَلَا تجزيه، وَهُوَ قَول ابْن الْقَاسِم وَرِوَايَته واختياره من قَول مَالك،.

     وَقَالَ  مرّة أُخْرَى: يسْجد سَجْدَتي السَّهْو وتجزيه، وَهِي رِوَايَة ابْن عبد الحكم وَغَيره عَنهُ.
قَالَ: وَقد قيل: إِنَّه يُعِيد تِلْكَ الرَّكْعَة وَيسْجد للسَّهْو بعد السَّلَام.
قَالَ: قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد: لَا تجزيه حَتَّى يقْرَأ بِفَاتِحَة الْكتاب فِي كل رَكْعَة.
وَفِي ( الْمُغنِي) وَرُوِيَ عَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَعُثْمَان بن أبي الْعَاصِ وخوات بن جُبَير أَنهم قَالُوا: لَا صَلَاة إلاّ بِقِرَاءَة فَاتِحَة الْكتاب.
وَعَن أَحْمد: إِنَّهَا لَا تتَعَيَّن، وتجزيه قِرَاءَة آيَة من الْقُرْآن من أَي مَوضِع كَانَ.
.

     وَقَالَ  ابْن حزم فِي ( الْمحلى) : وَقِرَاءَة أم الْقُرْآن فرض فِي كل رَكْعَة من كل صَلَاة، إِمَامًا كَانَ أَو مَأْمُوما، وَالْفَرْض والتطوع سَوَاء، وَالرِّجَال وَالنِّسَاء سَوَاء.
.

     وَقَالَ  الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ فِي رِوَايَة، وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَأحمد فِي رِوَايَة، وَعبد الله بن وهب وَأَشْهَب: لَا يقْرَأ الْمُؤْتَم شَيْئا من الْقُرْآن وَلَا بِفَاتِحَة الْكتاب فِي شَيْء من الصَّلَوَات، وَهُوَ قَول ابْن الْمسيب فِي جمَاعَة من التَّابِعين، وفقهاء الْحجاز وَالشَّام على أَنه: لَا يقْرَأ مَعَه فِيمَا يجْهر بِهِ وَإِن لم يسمعهُ وَيقْرَأ فِيمَا يسر فِيهِ الإِمَام، ثمَّ وَجه اسْتِدْلَال الشَّافِعِي وَمن مَعَه بِهَذَا الحَدِيث، وَهُوَ أَنه: نفى جنس الصَّلَاة عَن الْجَوَاز إلاّ بِقِرَاءَة فَاتِحَة الْكتاب.

وَاسْتدلَّ أَصْحَابنَا بقوله تَعَالَى: {فاقرؤا مَا تيَسّر من الْقُرْآن} ( المزمل: 0) .
أَمر الله تَعَالَى بِقِرَاءَة مَا تيَسّر من الْقُرْآن مُطلقًا، وتقييده بِالْفَاتِحَةِ زِيَادَة على مُطلق النَّص، وَذَا لَا يجوز لِأَنَّهُ نسخ، فَيكون أدنى مَا ينْطَلق عَلَيْهِ الْقُرْآن فرضا لكَونه مَأْمُورا بِهِ، وَأَن الْقِرَاءَة خَارج الصَّلَاة لَيست بِفَرْض، فَتعين أَن يكون فِي الصَّلَاة.
فَإِن قلت: هَذِه الْآيَة فِي صَلَاة اللَّيْل، وَقد نسخت فرضيتها، وَكَيف يَصح التَّمَسُّك بهَا؟ قلت: مَا شرع ركنا لم يصر مَنْسُوخا، وَإِنَّمَا نسخ وجوب قيام اللَّيْل دون فرض الصَّلَاة وشرائطها وَسَائِر أَحْكَامهَا، وَيدل عَلَيْهِ أَنه أَمر بِالْقِرَاءَةِ بعد النّسخ بقوله: {فاقرؤا مَا تيَسّر مِنْهُ} ( المزمل: 0) .
وَالصَّلَاة بعد النّسخ بقيت نفلا، وكل من شَرط الْفَاتِحَة فِي الْفَرْض شَرطهَا فِي النَّفْل، وَمن لَا فَلَا، وَالْآيَة تَنْفِي اشْتِرَاطهَا فِي النَّفْل، فَلَا تكون ركنا فِي الْفَرْض لعدم الْقَائِل بِالْفَصْلِ.
فَإِن قلت: كلمة: مَا، مجملة، والْحَدِيث معِين ومبين، فالمعين يقْضِي على الْمُبْهم.
قلت: كل من قَالَ بِهَذَا يدل على عدم مَعْرفَته بأصول الْفِقْه، لِأَن كلمة: مَا، من أَلْفَاظ الْعُمُوم يجب الْعَمَل بعمومها من غير توقف، وَلَو كَانَت مجملة لما جَازَ الْعَمَل بهَا قبل الْبَيَان كَسَائِر مجملات الْقُرْآن، والْحَدِيث مَعْنَاهُ أَي: شَيْء تيَسّر، وَلَا يسوغ ذَلِك فِيمَا ذَكرُوهُ، فَيلْزم التّرْك بِالْقُرْآنِ والْحَدِيث، وَالْعَام عندنَا لَا يحمل على الْخَاص مَعَ مَا فِي الْخَاص من الِاحْتِمَالَات.
فَإِن قلت: هَذَا الحَدِيث مَشْهُور فَإِن الْعلمَاء تَلَقَّتْهُ بِالْقبُولِ فَتجوز الزِّيَادَة بِمثلِهِ.
قلت: لَا نسلم أَنه مَشْهُور، لِأَن الْمَشْهُور مَا تَلقاهُ التابعون بِالْقبُولِ، وَقد اخْتلف التابعون فِي هَذِه الْمَسْأَلَة.
وَلَئِن سلمنَا أَنه مَشْهُور فَالزِّيَادَة بالْخبر الْمَشْهُور إِنَّمَا تجوز إِذا كَانَ محكما، أما إِذا كَانَ مُحْتملا فَلَا، وَهَذَا الحَدِيث مُحْتَمل، لِأَن مثله يسْتَعْمل لنفي الْجَوَاز، وَيسْتَعْمل لنفي الْفَضِيلَة لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( لَا صَلَاة لِجَار الْمَسْجِد إلاّ فِي الْمَسْجِد) ، وَالْمرَاد نفي الْفَضِيلَة، كَذَا هُوَ، ويؤكد هَذَا التَّأْوِيل قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهُم لَا إِيمَان لَهُم} ( التَّوْبَة: 1) .
مَعْنَاهُ أَنه لَا أَيْمَان لَهُم موثوقا بهَا، وَلم ينف وجود الْأَيْمَان مِنْهُم رَأْسا، لِأَنَّهُ قَالَ: وَإِن نكثوا إِيمَانهم من بعد عَهدهم} ( التَّوْبَة: 1) .
وعقب ذَلِك أَيْضا بقوله: {أَلاَ تقاتلون قوما نكثوا أَيْمَانهم} ( التَّوْبَة: 13) .
فَثَبت أَنه لم يرد بقوله: {أَنهم لَا أَيْمَان لَهُم} ( التَّوْبَة: 1) .
نفى الايمان أصلا، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ مَا ذَكرْنَاهُ، وَهَذَا يدل على إِطْلَاق لَفْظَة: لَا، وَالْمرَاد بهَا نفي الْفَضِيلَة دون الأَصْل، كَمَا ذكرنَا من النظير،.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَلِأَن نفي الْأَجْزَاء أقرب إِلَى نفي الْحَقِيقَة، وَلِأَنَّهُ السَّابِق إِلَى الْفَهم فَيكون أولى، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق الْعَبَّاس بن الْوَلِيد الْقرشِي أحد شُيُوخ البُخَارِيّ عَن سُفْيَان بِلَفْظ: ( لَا تجزىء صَلَاة لَا يقْرَأ فِيهَا بِفَاتِحَة الْكتاب) .
قلت: لَا نسلم قرب نفي الْأَجْزَاء إِلَى نفي الْحَقِيقَة، لِأَنَّهُ مُحْتَمل لنفي الْأَجْزَاء ولنفي الْفَضِيلَة، وَالْحمل على نفي الْكَمَال أولى، بل يتَعَيَّن لِأَن نفي الْأَجْزَاء يسْتَلْزم نفي الْكَمَال فَيكون فِيهِ نفي شَيْئَيْنِ، فتكثر الْمُخَالفَة فَيتَعَيَّن نفي الْكَمَال، ودعواه التأييد بِهَذَا الحَدِيث الَّذِي أخرجه الإسماعيل وَابْن خُزَيْمَة لَا يفِيدهُ، لِأَن هَذَا لَيْسَ لَهُ من الْقُوَّة مَا يُعَارض مَا أخرجه الْأَئِمَّة السِّتَّة، على أَن ابْن حبَان قد ذكر أَنه لم يقل فِي خبر الْعَلَاء ابْن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة إلاّ شُعْبَة، وَلَا عَنهُ إلاّ وهب بن جرير،.

     وَقَالَ  هَذَا الْقَائِل أَيْضا) : وَقد أخرج ابْن خُزَيْمَة عَن مُحَمَّد بن الْوَلِيد الْقرشِي عَن سُفْيَان حَدِيث الْبابُُ، وَلَفظه: ( لَا صَلَاة إلاّ بِقِرَاءَة فَاتِحَة الْكتاب) ، فَلَا يمْنَع أَن يُقَال: إِن قَوْله: لَا صَلَاة، نفي بِمَعْنى النَّهْي أَي: لَا تصلوا إلاّ بِقِرَاءَة فَاتِحَة الْكتاب، وَنَظِيره مَا رَوَاهُ مُسلم من طَرِيق الْقَاسِم عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، مَرْفُوعا: ( لَا صَلَاة بِحَضْرَة الطَّعَام) فَإِنَّهُ فِي ( صَحِيح ابْن حبَان) بِلَفْظ: ( لَا يُصَلِّي أحدكُم بِحَضْرَة الطَّعَام) .
قلت: تنظيره بِحَدِيث مُسلم غير صَحِيح، لِأَن لفظ حَدِيث ابْن حبَان غير نهي بل هُوَ نفي الْغَائِب، وَكَلَامه يدل على أَنه لَا يعرف الْفرق بَين النَّفْي وَالنَّهْي.
.

     وَقَالَ  أَيْضا: اسْتدلَّ من أسقطها أَي: من أسقط قِرَاءَة الْفَاتِحَة عَن الْمَأْمُوم مُطلقًا يَعْنِي أسر الإِمَام أَو جهر كالحنفية بِحَدِيث: ( من صلى خلف الإِمَام فقراءة الإِمَام قِرَاءَة لَهُ) ، لكنه حَدِيث ضَعِيف عِنْد الْحفاظ، وَقد استوعب طرقه وَعلله الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيره.
قلت: هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ جمَاعَة من الصَّحَابَة وهم: جَابر بن عبد الله وَابْن عمر وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ وَأَبُو هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس وانس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
فَحَدِيث جَابر أخرجه ابْن مَاجَه عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( من كَانَ لَهُ إِمَام فَإِن قِرَاءَة الإِمَام قِرَاءَة لَهُ) .
وَحَدِيث ابْن عمر أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( من كَانَ لَهُ إِمَام فقراءة الإِمَام لَهُ قِرَاءَة) .
وَحَدِيث أبي سعيد أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي ( الْأَوْسَط) عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( من كَانَ لَهُ إِمَام فقراءة الإِمَام لَهُ قِرَاءَة) .
وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ فِي ( سنَنه) من حَدِيث سهل بن صَالح عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا نَحوه سَوَاء.
وَحَدِيث ابْن عَبَّاس أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا عَنهُ عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: ( يَكْفِيك قِرَاءَة الإِمَام خَافت أَو جهر) .
وَحَدِيث أنس أخرجه ابْن حبَان فِي ( كتاب الضُّعَفَاء) : عَن غنيم بن سَالم عَن أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( من كَانَ لَهُ إِمَام فقراءة الإِمَام لَهُ قِرَاءَة) ،.
فَإِن قلت: فِي حَدِيث جَابر بن عبد الله جَابر الْجعْفِيّ وَهُوَ مَجْرُوح، كذبه أَبُو حنيفَة وَغَيره، وَفِي حَدِيث أبي سعيد إِسْمَاعِيل بن عمر بن نجيح وَهُوَ ضَعِيف، وَحَدِيث ابْن عمر مَوْقُوف، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: رَفعه وهم؛ وَحَدِيث ابْن عَبَّاس عَن أَحْمد هُوَ حَدِيث مُنكر:.

     وَقَالَ  الدَّارَقُطْنِيّ حَدِيث أبي هُرَيْرَة لَا يَصح عَن سُهَيْل، وَتفرد بِهِ مُحَمَّد بن عباد وَهُوَ ضَعِيف، وَفِي حَدِيث أنس غنيم بن سَالم قَالَ ابْن حبَان: هُوَ مُخَالف الثِّقَات فِي الرِّوَايَات فَلَا تعجبني الرِّوَايَة عَنهُ، فَكيف الِاحْتِجَاج؟ قلت: أما حَدِيث جَابر فَلهُ طرق أُخْرَى يشد بَعْضهَا بَعْضًا: مِنْهَا طَرِيق صَحِيح، وَهُوَ مَا رَوَاهُ مُحَمَّد بن الْحسن فِي ( الْمُوَطَّأ) عَن أبي حنيفَة، قَالَ: أخبرنَا الإِمَام أَبُو حنيفَة حَدثنَا أَبُو الْحسن مُوسَى بن أبي عَائِشَة عَن عبد الله بن شَدَّاد عَن جَابر عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( من صلى خلف الإِمَام فَإِن قِرَاءَة الإِمَام لَهُ قِرَاءَة) .
فَإِن قلت: هَذَا حَدِيث أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ فِي ( سنَنه) ثمَّ الْبَيْهَقِيّ عَن أبي حنيفَة مَقْرُونا بالْحسنِ بن عمَارَة وَعَن الْحسن بن عمَارَة وَحده بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، ثمَّ قَالَ: هَذَا الحَدِيث لم يسْندهُ عَن جَابر بن عبد الله غير أبي حنيفَة وَالْحسن بن عمَارَة وهما ضعيفان، وَقد رَوَاهُ سُفْيَان الثَّوْريّ وَأَبُو الْأَحْوَص وَشعْبَة وَإِسْرَائِيل وَشريك وَأَبُو خَالِد الدالاني وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَغَيرهم عَن أبي الْحسن مُوسَى بن أبي عَائِشَة عَن عبد الله بن شَدَّاد عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مُرْسلا، وَهُوَ الصَّوَاب.
قلت: لَو تأدب الدَّارَقُطْنِيّ واستحيى لما تلفظ بِهَذِهِ اللَّفْظَة فِي حق أبي حنيفَة فَإِنَّهُ إِمَام طبق علمه الشرق والغرب، وَلما سُئِلَ إِبْنِ معِين عَنهُ فَقَالَ: ثِقَة مَأْمُون مَا سَمِعت أحدا ضعفه، هَذَا شُعْبَة بن الْحجَّاج يكْتب إِلَيْهِ أَن يحدث وَشعْبَة شُعْبَة.
.

     وَقَالَ  أَيْضا: كَانَ أَبُو حنيفَة ثِقَة من أهل الدّين والصدق وَلم يتهم بِالْكَذِبِ، وَكَانَ مَأْمُونا على دين الله تَعَالَى، صَدُوقًا فِي الحَدِيث، وَأثْنى عَلَيْهِ جمَاعَة من الْأَئِمَّة الْكِبَار مثل عبد الله بن الْمُبَارك، ويعد من أَصْحَابه، وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وسُفْيَان الثَّوْريّ وَحَمَّاد بن زيد وَعبد الرَّزَّاق ووكيع، وَكَانَ يُفْتِي بِرَأْيهِ وَالْأَئِمَّة الثَّلَاثَة: مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَآخَرُونَ كَثِيرُونَ، وَقد ظهر لَك من هَذَا تحامل الدَّارَقُطْنِيّ عَلَيْهِ وتعصبه الْفَاسِد، وَلَيْسَ لَهُ مِقْدَار بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَؤُلَاءِ حَتَّى يتَكَلَّم فِي إِمَام مُتَقَدم على هَؤُلَاءِ فِي الدّين وَالتَّقوى وَالْعلم، وبتضعيفه إِيَّاه يسْتَحق هُوَ التَّضْعِيف، أَفلا يرضى بسكوت أَصْحَابه عَنهُ وَقد روى فِي ( سنَنه) أَحَادِيث سقيمة ومعلولة ومنكرة وغريبة وموضوعة؟ وَلَقَد روى أَحَادِيث ضَعِيفَة فِي كِتَابه ( الْجَهْر بالبسملة) وَاحْتج بهَا مَعَ علمه بذلك، حَتَّى إِن بَعضهم استحلفه على ذَلِك فَقَالَ: لَيْسَ فِيهِ حَدِيث صَحِيح.
وَلَقَد صدق الْقَائِل:
( حسدوا الْفَتى إِذْ لم ينالوا سَعْيه ... فالقوم أَعدَاء لَهُ وخصوم) وَأما قَوْله: وَقد رَوَاهُ سُفْيَان الثَّوْريّ ... إِلَى آخِره، فَلَا يضرنا، لِأَن الزِّيَادَة من الثِّقَة مَقْبُولَة، وَلَئِن سلمنَا فالمرسل عندنَا حجَّة، وجوابنا عَن الْأَحَادِيث الَّتِي قَالُوا: فِي أسانيدها ضعفاء، إِن الضَّعِيف يتقوى بِالصَّحِيحِ وَيُقَوِّي بَعْضهَا بَعْضًا، وَأما قَوْله فِي بَعْضهَا: فَهُوَ مَوْقُوف، فَالْمَوْقُوفُ عندنَا حجَّة لِأَن الصَّحَابَة عدُول، وَمَعَ هَذَا روى منع الْقِرَاءَة خلف الإِمَام عَن ثَمَانِينَ من الصَّحَابَة الْكِبَار مِنْهُم: المرتضي والعبادلة الثَّلَاثَة وأساميهم عِنْد أهل الحَدِيث، فَكَانَ اتِّفَاقهم بِمَنْزِلَة الْإِجْمَاع، فَمن هَذَا قَالَ صَاحب ( الْهِدَايَة) من أَصْحَابنَا: وعَلى ترك الْقِرَاءَة خلف الإِمَام إِجْمَاع الصَّحَابَة، فَسَماهُ إِجْمَاعًا بِاعْتِبَار اتِّفَاق الْأَكْثَر، وَمثل هَذَا يُسمى إِجْمَاعًا عندنَا، وَذكر الشَّيْخ الإِمَام عبد الله بن يَعْقُوب الحارني السيذموني فِي كتاب ( كشف الْأَسْرَار) : عَن عبد الله بن زيد بن أسلم عَن أَبِيه قَالَ: كَانَ عشرَة من أَصْحَاب رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ينهون عَن الْقِرَاءَة خلف الإِمَام أَشد النَّهْي: أَبُو بكر الصّديق وَعمر الْفَارُوق وَعُثْمَان بن عَفَّان وَعلي بن أبي طَالب وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَسعد ابْن أبي وَقاص وَعبد الله بن مَسْعُود وَزيد بن ثَابت وَعبد الله بن عمر وَعبد الله بن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
قلت: روى عبد الرَّزَّاق فِي ( مُصَنفه) : أَخْبرنِي مُوسَى بن عقبَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَبا بكر وَعمر وَعُثْمَان كَانُوا ينهون عَن الْقِرَاءَة خلف الإِمَام، وَأخرج عَن دَاوُد بن قيس عَن مُحَمَّد بن بجاد، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَخْفِيف الْجِيم، عَن مُوسَى بن سعد بن أبي وَقاص قَالَ: ذكر لي أَن سعد بن أبي وَقاص قَالَ: وددت أَن الَّذِي يقْرَأ خلف الإِمَام فِي فِيهِ حجر، وَأخرج الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه قَالَ: من قَرَأَ خلف الإِمَام فَلَيْسَ على الْفطْرَة، أَرَادَ أَنه لَيْسَ على شَرَائِط الْإِسْلَام، وَقيل: لَيْسَ على السّنة.
وَأخرجه ابْن أبي شيبَة أَيْضا فِي ( مُصَنفه) عَن أبي ليلى عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: من قَرَأَ خلف الإِمَام فقد أَخطَأ الْفطْرَة.
وَأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ كَذَلِك من طرق، وَأخرجه عبد الرَّزَّاق فِي ( مُصَنفه) : عَن دَاوُد بن قيس عَن مُحَمَّد بن عجلَان عَنهُ قَالَ: قَالَ عَليّ: من قَرَأَ مَعَ الإِمَام فَلَيْسَ على الْفطْرَة.
قَالَ:.

     وَقَالَ  ابْن مَسْعُود: ملىء فوه تُرَابا.
قَالَ:.

     وَقَالَ  عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: وددت أَن الَّذِي يقْرَأ خلف الإِمَام فِي فِيهِ حجر.
وَفِي ( التَّمْهِيد) : ثَبت عَن عَليّ وَسعد وَزيد ابْن ثَابت أَنه: لَا قِرَاءَة مَعَ الإِمَام لَا فِيمَا أسر وَلَا فِيمَا جهر.
وَأخرج عبد الرَّزَّاق عَن الثَّوْريّ عَن أبي مَنْصُور عَن أبي وَائِل قَالَ: قَالَ جَاءَ رجل إِلَى عبد الله، فَقَالَ: يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن أَقرَأ خلف الإِمَام؟ قَالَ: أنصت لِلْقُرْآنِ فَإِن فِي الصَّلَاة شغلاً وسيكفيك ذَلِك الإِمَام.
وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ عَن عبد الرَّزَّاق، وَأخرجه ابْن أبي شيبَة فِي ( مُصَنفه) نَحوه عَن أبي الْأَحْوَص عَن مَنْصُور.
.
إِلَى آخِره.
قلت: روى الطَّحَاوِيّ من حَدِيث أبي إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ قَالَ: سَأَلت عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن الْقِرَاءَة خلف الإِمَام فَقَالَ لي: إقرأ.
قلت: وَإِن كنت خَلفك؟ قَالَ: وَإِن كنت خَلْفي.
قلت: وَإِن قَرَأت؟ قَالَ: وَإِن قَرَأت.
وَأخرج أَيْضا عَن مُجَاهِد، قَالَ: سَمِعت عبد الله بن عَمْرو يقْرَأ خلف الإِمَام فِي صَلَاة الظّهْر من سُورَة مَرْيَم، ثمَّ أجَاب بقوله: وَقد روى عَن غَيرهم من أَصْحَاب النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، خلاف ذَلِك، ثمَّ روى حَدِيث على، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الَّذِي ذكرنَا آنِفا.
وَأخرج حَدِيث ابْن مَسْعُود الَّذِي أخرجه عبد الرَّزَّاق الَّذِي ذَكرْنَاهُ آنِفا، ثمَّ أخرج عَن أبي بكرَة: حَدثنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدثنَا خديج بن مُعَاوِيَة عَن أبي إِسْحَاق عَن عَلْقَمَة عَن ابْن مَسْعُود، قَالَ: لَيْت الَّذِي يقْرَأ خلف الإِمَام ملىء فوه تُرَابا.
وَأخرج أَيْضا عَن يُونُس بن عبد الْأَعْلَى، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن وهب، قَالَ: أَخْبرنِي حَيْوَة بن شُرَيْح عَن بكر بن عَمْرو عَن عبيد الله بن مقسم أَنه سَأَلَ عبد الله بن عمر وَزيد بن ثَابت وَجَابِر بن عبد الله، فَقَالُوا: لَا تقْرَأ خلف الإِمَام فِي شَيْء من الصَّلَوَات، ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَهَؤُلَاءِ جمَاعَة من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أَجمعُوا على ترك الْقِرَاءَة خلف الإِمَام، وَقد وافقهم على ذَلِك مَا قد رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّا قدمنَا ذكره، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَحَادِيث الصَّحَابَة الَّذين رووا ترك الْقِرَاءَة خلف الإِمَام.
فَإِن قلت: أخرج الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث الْجريرِي عَن أبي الْأَزْهَر قَالَ: سُئِلَ ابْن عمر عَن الْقِرَاءَة خلف الإِمَام، فَقَالَ: إِنِّي لاستحيي من رب هَذِه البنية أَن أُصَلِّي صَلَاة لَا أَقرَأ فِيهَا بِأم الْقُرْآن.
قلت: هَذِه مُعَارضَة بَاطِلَة، فَإِن إِسْنَاد مَا ذكره مُنْقَطع، وَالصَّحِيح عَن ابْن عمر عدم وجوب الْقِرَاءَة خلف الإِمَام.
فَإِن قلت: قَوْله: صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( قِرَاءَة الإِمَام قِرَاءَة لَهُ) ، معَارض لقَوْله تَعَالَى:: {فاقرؤا} ( المزمل: 0) .
أَفلا يجوز تَركه بِخَبَر الْوَاحِد.
قلت: جعل الْمُقْتَدِي قَارِئًا بِقِرَاءَة الإِمَام فَلَا يلْزم التّرْك، أَو نقُول إِنَّه خص مِنْهُ الْمُقْتَدِي الَّذِي أدْرك الإِمَام فِي الرُّكُوع فَإِنَّهُ لَا يجب عَلَيْهِ الْقِرَاءَة بِالْإِجْمَاع، فَتجوز الزِّيَادَة عَلَيْهِ حِينَئِذٍ بِخَبَر الْوَاحِد.
فَإِن قلت: قد حمل الْبَيْهَقِيّ فِي ( كتاب الْمعرفَة) حَدِيث: ( من كَانَ لَهُ إِمَام فقراءة الإِمَام قِرَاءَة لَهُ) ، على ترك الْجَهْر بِالْقِرَاءَةِ خلف الإِمَام، وعَلى قِرَاءَة الْفَاتِحَة دون السُّورَة، وَاسْتدلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت الْمَذْكُور قلت: لَيْسَ فِي شَيْء من الْأَحَادِيث بَيَان الْقِرَاءَة خلف الإِمَام فِيمَا جهر، وَالْفرق بَين الْإِسْرَار والجهر لَا يَصح لِأَن فِيهِ إِسْقَاط الْوَاجِب بمسنون على زعمهم، قَالَه إِبْرَاهِيم بن الْحَارِث فَإِن قلت: أخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَغَيرهمَا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( من صلى صَلَاة لم يقْرَأ فِيهَا بِأم الْقُرْآن فَهِيَ خداج فَهِيَ خداج فَهِيَ خداج غير تَمام) ، فهدا يدل على الركنية قلت: لَا نسلم، لِأَن مَعْنَاهُ: ذَات خداج، أَي: نُقْصَان، بِمَعْنى: صلَاته نَاقِصَة، وَنحن نقُول بِهِ، لِأَن النُّقْصَان فِي الْوَصْف لَا فِي الذَّات وَلِهَذَا قُلْنَا بِوُجُوب قِرَاءَة الْفَاتِحَة.
فَإِن قلت: قَوْله تَعَالَى:: {فاقرؤا مَا تيَسّر} ( االمزمل: 0) .
عَام خص مِنْهُ الْبَعْض، وَهُوَ مَا دون الْآيَة، فَإِن عِنْد أبي حنيفَة: أدنى مَا يجزىء عَن الْقِرَاءَة آيَة تَامَّة، لِأَن مَا دون الْآيَة خَارج بِالْإِجْمَاع، فَإِذا كَانَ كَذَلِك يجوز تَخْصِيصه بِخَبَر الْوَاحِد وبالقياس أَيْضا قلت: الْقُرْآن يتَنَاوَل مَا هُوَ معجز عرفا، فَلَا يتَنَاوَل مَا دون الْآيَة؟ فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد: حَدثنَا ابْن بشار حَدثنَا يحيى حَدثنَا جَعْفَر عَن أبي عُثْمَان عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: ( أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن أنادي أَنه: لَا صَلَاة إلاّ بِقِرَاءَة فَاتِحَة الْكتاب فَمَا زَاد) .
قلت: هَذَا الحَدِيث رُوِيَ بِوُجُوه مُخْتَلفَة، فَرَوَاهُ الْبَزَّار وَلَفظه: ( أَمر مناديا فَنَادَى) .
وَفِي كتاب ( الصَّلَاة) لأبي الْحُسَيْن أَحْمد بن مُحَمَّد الْخفاف: لَا صَلَاة إلاّ بقرآن وَلَو بِفَاتِحَة الْكتاب فَمَا زَاد وَفِي ( الصَّلَاة) للفريابي: ( أنادي فِي الْمَدِينَة أَن: لَا صَلَاة إلاّ بِقِرَاءَة أَو بِفَاتِحَة الْكتاب فَمَا زَاد) وَفِي لفظ: فناديت: ( أَن لَا صَلَاة إلاّ بِقِرَاءَة فَاتِحَة الْكتاب) وَعند الْبَيْهَقِيّ: ( إلاّ بِقِرَاءَة فَاتِحَة الْكتاب فَمَا زَاد) وَفِي ( الْأَوْسَط) : ( فِي كل صَلَاة قِرَاءَة وَلَو بِفَاتِحَة الْكتاب) ، وَهَذِه الْأَحَادِيث كلهَا لَا تدل على فَرضِيَّة قِرَاءَة الْفَاتِحَة، بل غالبها يَنْفِي الْفَرْضِيَّة، فَإِن دلّت إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ على عدم جَوَاز الصَّلَاة إلاّ بِالْفَاتِحَةِ دلّت الْأُخْرَى على جَوَازهَا بِلَا فَاتِحَة، فنعمل بِالْحَدِيثين، وَلَا نهمل أَحدهمَا بِأَن نقُول بفرضية مُطلق الْقِرَاءَة، وبوجوب قِرَاءَة الْفَاتِحَة، وَهَذَا هُوَ الْعدْل فِي بابُُ أَعمال الْأَخْبَار، وَأَيْضًا فِي حَدِيث أبي دَاوُد الْمَذْكُور أَمْرَانِ: أَحدهمَا: أَن جعفرا الْمَذْكُور فِي سَنَده هُوَ جَعْفَر بن مَيْمُون فِيهِ كَلَام حَتَّى صرح النَّسَائِيّ أَنه: لَيْسَ بِثِقَة.
: وَالثَّانِي: أَنه يَقْتَضِي فَرضِيَّة مَا زَاد على الْفَاتِحَة، لِأَن معنى قَوْله: ( فَمَا زَاد) ، الَّذِي زَاد على الْفَاتِحَة، أَو بِقِرَاءَة الزِّيَادَة على الْفَاتِحَة، وَلَيْسَ ذَاك مَذْهَب الشَّافِعِي، وَقد روى أَبُو دَاوُد من حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت يبلغ بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ( لَا صَلَاة لمن لم يقْرَأ بِفَاتِحَة الْكتاب فَصَاعِدا) .
قَالَ سُفْيَان: لمن يُصَلِّي وَحده.
قلت: مَعْنَاهُ: لَا صَلَاة كَامِلَة لمن لم يقْرَأ بِفَاتِحَة الْكتاب زَائِدَة على الْفَاتِحَة،.

     وَقَالَ  سُفْيَان، هُوَ ابْن عُيَيْنَة أحد رُوَاة هَذَا الحَدِيث، هَذَا لمن يُصَلِّي وَحده، يَعْنِي فِي حق من يُصَلِّي وَحده، وَأما الْمُقْتَدِي فَإِن قِرَاءَة الإِمَام قِرَاءَة لَهُ، وَكَذَا قَالَه الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي رِوَايَته: إِذا كَانَ وَحده، فعلى هَذَا يكون الحَدِيث مَخْصُوصًا فِي حق الْمُنْفَرد فَلم يبْق للشَّافِعِيَّة بعد هَذَا دَعْوَى الْعُمُوم.
وَحَدِيث عبَادَة هَذَا أخرجه البُخَارِيّ كَمَا ذكر وَلَيْسَ فِيهِ لَفْظَة: فَصَاعِدا.
فَإِن قلت: قَالَ البُخَارِيّ فِي ( كتاب الْقِرَاءَة خلف الإِمَام) :.

     وَقَالَ  معمر عَن الزُّهْرِيّ: فَصَاعِدا، وَعَامة الثِّقَات لم تتَابع معمرا فِي قَوْله: فَصَاعِدا؟ قلت: هَذَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة قد تَابع معمرا فِي هَذِه اللَّفْظَة، وَكَذَلِكَ تَابعه فِيهَا صَالح وَالْأَوْزَاعِيّ وَعبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق وَغَيرهم كلهم عَن الزُّهْرِيّ فَإِن قلت: أخرج أَبُو دَاوُد عَن القعْنبِي عَن مَالك عَن الْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن أَنه سمع أَبَا السَّائِب مولى هِشَام بن زهرَة يَقُول: سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة يَقُول: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( من صلى صَلَاة لم يقْرَأ فِيهَا بِأم الْقُرْآن) الحَدِيث، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَفِيه: ( فَقلت: يَا أَبَا هُرَيْرَة إِنِّي أكون أَحْيَانًا وَرَاء الإِمَام، قَالَ: فغمز ذراعي.

     وَقَالَ : إقرأ بهَا فِي نَفسك يَا فَارسي)
الحَدِيث، وَالْخطاب لأبي السَّائِب.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: وَهَذَا يُؤَيّد وجوب قِرَاءَة الْفَاتِحَة على الْمَأْمُوم، وَمَعْنَاهُ: إقرأها سرا بِحَيْثُ تسمع نَفسك.
قلت: هَذَا لَا يدل على الْوُجُوب، لِأَن الْمَأْمُوم مَأْمُور بالإنصات لقَوْله تَعَالَى: {وأنصتوا} ( الْأَعْرَاف: 04) .
والإنصات: الإصغاء، وَالْقِرَاءَة سرا بِحَيْثُ يسمع نَفسه تخل بالإنصات، فَحِينَئِذٍ يحمل ذَلِك على أَن المُرَاد تدبر ذَلِك، وتفكره، وَلَئِن سلمنَا أَن المُرَاد هُوَ الْقِرَاءَة حَقِيقَة فَلَا نسلم أَنه يدل على الْوُجُوب، على أَن بعض أَصْحَابنَا استحسنوا ذَلِك على سَبِيل الِاحْتِيَاط فِي جَمِيع الصَّلَوَات، وَمِنْهُم من استحسنها فِي غير الجهرية، وَمِنْهُم من رأى ذَلِك إِذا كَانَ الإِمَام لحانا، وَمِمَّا يُؤَيّد مَا ذهب إِلَيْهِ أَصْحَابنَا مَا أخرجه أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( إِنَّمَا جعل الإِمَام ليؤتم بِهِ) ، بِهَذَا الْخَبَر، وَزَاد: ( وَإِذا قَرَأَ فأنصتوا) ، رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه والطخاوي، وَهَذَا حجَّة صَرِيحَة فِي أَن الْمُقْتَدِي لَا يجب عَلَيْهِ أَن يقْرَأ خلف الإِمَام أصلا على الشَّافِعِي فِي جَمِيع الصَّلَوَات، وعَلى مَالك فِي الظّهْر وَالْعصر.
فَإِن قلت: قد قَالَ أَبُو دَاوُد عقيب إِخْرَاجه هَذَا الحَدِيث: وَهَذِه الزِّيَادَة يَعْنِي: ( إِذا قَرَأَ فأنصتوا) لَيست بمحفوظة الْوَهم من أبي خَالِد أحد رُوَاته، واسْمه: سُلَيْمَان بن حَيَّان، بِفَتْح الْحَاء وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: وَهُوَ من رجال الْجَمَاعَة.
.

     وَقَالَ  الْبَيْهَقِيّ فِي ( الْمعرفَة) : أجمع الْحفاظ على خطأ هَذِه اللَّفْظَة، وَأسْندَ عَن ابْن معِين فِي ( سنَنه الْكَبِير) قَالَ: فِي حَدِيث ابْن عجلَان وَزَاد: ( وَإِذا قَرَأَ فأنصتوا) ، لَيْسَ بِشَيْء، وَكَذَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي حَدِيث أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ: ( وَإِذا قَرَأَ الإِمَام فأنصتوا) ، وَقد رَوَاهُ أَصْحَاب قَتَادَة الْحفاظ عَنهُ مِنْهُم: هِشَام الدستوَائي وَسَعِيد وَشعْبَة وَهَمَّام وَأَبُو عوَانَة وَأَبَان وعدي بن أبي عمَارَة وَلم يقل وَاحِد مِنْهُم: ( وَإِذا قَرَأَ فأنصتوا قَالَ: وإجماعهم يدل على وهمه، وَعَن أبي حَاتِم: لَيست هَذِه الْكَلِمَة بمحفوظة، إِنَّمَا هِيَ من تخاليط ابْن عجلَان.
قلت: فِي هَذَا كُله نظر، أما ابْن عجلَان فَإِنَّهُ وَثَّقَهُ الْعجلِيّ، وَفِي ( الْكَمَال) : ثِقَة كثير الحَدِيث،.

     وَقَالَ  الدَّارَقُطْنِيّ: إِن مُسلما أخرج لَهُ فِي ( صَحِيحه) قلت: أخرج لَهُ الْجَمَاعَة البُخَارِيّ مستشهدا وَهُوَ مُحَمَّد بن عجلَان الْمدنِي، فَهَذَا زِيَادَة ثِقَة فَتقبل، وَقد تَابعه عَلَيْهِمَا خَارِجَة ابْن مُصعب وَيحيى بن الْعَلَاء، كَمَا ذكره الْبَيْهَقِيّ فِي ( سنَنه الْكَبِير) وَأما أَبُو خَالِد فقد أخرج لَهُ الْجَمَاعَة كَمَا ذكرنَا،.

     وَقَالَ  إِسْحَاق ابْن إِبْرَاهِيم: سَأَلت وكيعا عَنهُ فَقَالَ: أَبُو خَالِد مِمَّن يُسأل عَنهُ؟.

     وَقَالَ  أَبُو هِشَام الرَّافِعِيّ: حَدثنَا أَبُو خَالِد الْأَحْمَر الثِّقَة الْأمين، وَمَعَ هَذَا لم ينْفَرد بِهَذِهِ الزِّيَادَة، وَقد أخرج النَّسَائِيّ كَمَا ذكرنَا هَذَا الحَدِيث بِهَذِهِ الزِّيَادَة من طَرِيق مُحَمَّد بن سعد الْأنْصَارِيّ وَمُحَمّد بن سعد ثِقَة، وَثَّقَهُ يحيى بن معِين، وَقد تَابع ابْن سعد هَذَا أَبَا خَالِد، وَتَابعه أَيْضا إِسْمَاعِيل بن أبان، كَمَا أخرجه الْبَيْهَقِيّ فِي ( سنَنه) وَقد صحّح مُسلم هَذِه الزِّيَادَة من حَدِيث أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَمن حَدِيث أبي هُرَيْرَة،.

     وَقَالَ  أَبُو بكر: لمُسلم حَدِيث أبي هُرَيْرَة، يَعْنِي: ( إِذا قَرَأَ فأنصتوا) قَالَ: هُوَ عِنْدِي صَحِيح، فَقَالَ: لِمَ لَا تضعه هَهُنَا؟ قَالَ: لَيْسَ كل شَيْء عني صَحِيح وَضعته هَهُنَا، وَإِنَّمَا وضعت هَهُنَا مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ، وتوجد هَذِه الزِّيَادَة أَيْضا فِي بعض نسخ مُسلم عقيب الحَدِيث الْمَذْكُور، وَفِي ( التَّمْهِيد) بِسَنَدِهِ عَن ابْن حَنْبَل أَنه صحّح الْحَدِيثين، يَعْنِي: حَدِيث أبي مُوسَى وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَالْعجب من أبي دَاوُد أَنه نسب الْوَهم إِلَى أبي خَالِد وَهُوَ ثِقَة بِلَا شكّ، وَلم ينْسب إِلَى ابْن عجلَان وَفِيه كَلَام، وَمَعَ هَذَا أَيْضا فَابْن خُزَيْمَة صحّح حَدِيث ابْن عجلَان.





[ قــ :736 ... غــ :757 ]
-
حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى عنْ عُبَيْدِ الله قَالَ حدَّثني سَعِيدُ بنُ أبِي سَعِيدٍ عنْ أبِيهِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَخلَ المَسْجِدَ فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى فَسَلَّمَ عَلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَرَدَّ.

     وَقَالَ  ارْجَعْ فَصَلِّ فَإنَّكَ لَمْ تُصَلِّ فَرَجَعَ فَصَلَّى كَمَا صَلَّى ثُمَّ جاءَ فَسَلَّم عَلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ إرْجَعْ فَصَلِّ فإنَّكَ لَمْ تُصَلِّ ثَلاثا فَقَالَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ فَعَلِّمْنِي فَقَالَ إذَا قُمْتَ إلَى الصَّلاَةِ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرأ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ القُرآنِ ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قائِما ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ ساجِدا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جالِسا وافْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاتِكَ كُلِّها.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة تَأتي بالاستئناس فِي الْجُزْء السَّادِس من التَّرْجَمَة، وَهُوَ قَوْله: وَمَا يُخَافت، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر الرجل الْمَذْكُور فِي هَذَا الحَدِيث بِالْقِرَاءَةِ فِي صلَاته وَكَانَت صلَاته نهارية، لِأَن أصل صَلَاة النَّهَار على الْإِسْرَار إلاّ مَا خرج بِدَلِيل كَالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ، وأصل صَلَاة اللَّيْل على الْجَهْر، فَإِن خَالف فَعَلَيهِ سُجُود السَّهْو عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: وَمن لم يُوجب السُّجُود فِي ذَلِك أشبه بِدَلِيل حَدِيث أبي قَتَادَة الْآتِي فِيمَا بعد، وَكَانَ يسمعنا الْآيَة أَحْيَانًا وَهُوَ دَال على الْقَصْد إِلَيْهِ والمداومة عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لما كَانَ الْجَهْر والإسرار من سنَن الصَّلَاة، وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد جهر فِي بعض صَلَاة السِّرّ وَلم يسْجد لذَلِك، كَانَ كَذَلِك حكم الصَّلَاة إِذا جهر فِيهَا لِأَنَّهُ لَو اخْتلف الحكم فِي ذَلِك لبينه، وَلَا وَجه لمَذْهَب الْكُوفِيّين، إِذْ لَا حجَّة لَهُم فِيهِ من كتاب وَلَا سنة وَلَا نظر قلت: جهره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْقِرَاءَةِ فِي حَدِيث أبي قَتَادَة إِنَّمَا كَانَ لبَيَان جَوَاز الْجَهْر فِي الْقِرَاءَة السّريَّة، فَإِن الْإِسْرَار لَيْسَ بِشَرْط لصِحَّة الصَّلَاة، بل هُوَ سنة، وَيحْتَمل أَن الْجَهْر بِالْآيَةِ كَانَ بسبق اللِّسَان للاستغراق فِي التدبر.
قَوْله: وَلَا وَجه لمَذْهَب الْكُوفِيّين.
.
إِلَى آخِره، كَلَام واه لِأَن حجَّة الْكُوفِيّين فِي هَذَا الْبابُُ مواظبته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صَلَاة النَّهَار على الْإِسْرَار وعَلى الْجَهْر فِي صَلَاة اللَّيْل فِي الْفَرَائِض، وَفِي حَدِيث إِمَامَة جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، روى أنس أَنه أسر فِي الظّهْر وَالْعصر وَالثَّالِثَة من الْمغرب والأخريين من الْعشَاء، وأصل الحَدِيث فِي سنَن الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث قَتَادَة: عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وروى أَبُو دَاوُد فِي (مراسيله) عَن الْحسن فِي صَلَاة النَّبِي خلف جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام: أَنه أسر فِي الظّهْر وَالْعصر وَالثَّالِثَة من الْمغرب والأخريين من الْعشَاء وَنَحْو ذَلِك.
.

     وَقَالَ  بَعضهم مَوضِع الْحَاجة من حَدِيث أبي هُرَيْرَة هُنَا قَوْله: (ثمَّ اقْرَأ مَا تيَسّر مَعَك من الْقُرْآن) ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بإيراده عقيب حَدِيث عبَادَة أَن الْفَاتِحَة إِنَّمَا تتحتم على من يحسنها وَأَن من لَا يحسنها يقْرَأ مَا تيَسّر عَلَيْهِ أَو أَن الْإِجْمَال الَّذِي فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة يُبينهُ تعين الْفَاتِحَة فِي حَدِيث عبَادَة.
انْتهى.
قلت: هَذَا كَلَام بعيد عَن الْمَقْصُود جدا تمجه الأسماع، فَالْبُخَارِي وضع هَذَا الْبابُُ مترجما بترجمة لَهَا سِتَّة أَجزَاء، وَأورد حَدِيث أبي هُرَيْرَة هَذَا لأجل الْجُزْء السَّادِس كَمَا ذكرنَا، فَالْوَجْه الأول الَّذِي ذكره هَذَا الْقَائِل لَا يُنَاسب شَيْئا من التَّرْجَمَة أصلا وَهُوَ كَلَام أَجْنَبِي.
الْوَجْه الثَّانِي أبعد مِنْهُ لِأَنَّهُ ذكر أَن فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي قَوْله: (ثمَّ اقْرَأ مَا تيَسّر مَعَك) إِجْمَالا، فليت شعري من قَالَ: إِن حد الْإِجْمَال يصدق على هَذَا؟ والمجمل هُوَ مَا خَفِي المُرَاد مِنْهُ لنَفس اللَّفْظ خَفَاء لَا يدْرك إلاّ بِبَيَان من الْمُجْمل، سَوَاء كَانَ ذَلِك لتزاحم الْمعَانِي المتساوية الْأَقْدَام كالمشترك، أَو لغرابة اللَّفْظ كالهلوع، أَو لانتقاله من مَعْنَاهُ الظَّاهِر إِلَى مَا هُوَ غير مَعْلُوم، كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة والربا، فَانْظُر أَيهَا الْمنصف النازح عَن طَرِيق الاعتساف هَل يصدق مَا قَالَه من دَعْوَى الْإِجْمَال هُنَا؟ وَهل ينطبق مَا ذكره الأصوليون فِي حد الْمُجْمل على مَا ذكره؟ فنسأل الله الْعِصْمَة عَن دَعْوَى الأباطيل والوقوع فِي مهمة التضاليل.

ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: مُحَمَّد بن بشار، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الشين الْمُعْجَمَة، وَقد تكَرر ذكره.
الثَّانِي: يحيى بن سعيد الْقطَّان.
الثَّالِث: عبيد الله بن عمر الْعمريّ.
الرَّابِع: سعيد المَقْبُري.
الْخَامِس: أَبوهُ أَبُو سعيد، واسْمه كيسَان اللَّيْثِيّ الجندعي.
السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة.

ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين.
وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع.
وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: سعيد عَن أَبِيه.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: خَالف يحيى فِيهِ جَمِيع أَصْحَاب عبيد الله لِأَن كلهم رَوَوْهُ عَن عبيد الله عَن سعيد عَن أبي هُرَيْرَة، وَلم يذكرُوا أَبَاهُ،.

     وَقَالَ  التِّرْمِذِيّ: وروى ابْن نمير هَذَا الحَدِيث عَن عبيد الله عَن سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة، وَلم يذكر فِيهِ: عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة،.

     وَقَالَ  أَبُو دَاوُد: حَدثنَا القعْنبِي أخبرنَا أنس يَعْنِي ابْن عِيَاض، وَأخْبرنَا ابْن الْمثنى قَالَ: حَدثنِي يحيى بن سعيد عَن عبيد الله، وَهَذَا لفظ ابْن الْمثنى، قَالَ: حَدثنِي سعيد بن أبي سعيد عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، فَذكر الحَدِيث، ثمَّ قَالَ: قَالَ القعْنبِي: عَن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة،.

     وَقَالَ  الدَّارَقُطْنِيّ: يحيى حَافظ يعْتَمد مَا رَوَاهُ فَالْحَدِيث صَحِيح.

: ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن مُسَدّد وَفِيه وَفِي الاسْتِئْذَان عَن مُحَمَّد بن بشار.
وَأخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد جَمِيعًا فِي الصَّلَاة عَن أبي مُوسَى.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن مُحَمَّد بن بشار بِهِ.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن الْمثنى بِهِ،.

     وَقَالَ : خُولِفَ يحيى، فَقيل: سعيد عَن أبي هُرَيْرَة، وَأما رِوَايَة سعيد عَن أبي هُرَيْرَة فأخرجها البُخَارِيّ عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن عبيد الله بن نمير فِي الاسْتِئْذَان، وَأبي أُسَامَة فِي الْأَيْمَان وَالنُّذُور.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن نمير عَن أَبِيه بِهِ، وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن أبي أُسَامَة وَعبد الله بن نمير بِهِ.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي عَن أنس بن عِيَاض بِهِ.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن عبد الله بن نمير بِهِ.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ بِتَمَامِهِ.
وَفِي الْأَدَب بِبَعْضِه عَن أبي بكر ابْن أبي شيبَة عَن أبي أُسَامَة وَلِلْحَدِيثِ الْمَذْكُور طَرِيق أُخْرَى من غير رِوَايَة أبي هُرَيْرَة أخرجهَا أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة إِسْحَاق بن أبي طَلْحَة وَمُحَمّد بن إِسْحَاق وَمُحَمّد بن عَمْرو وَمُحَمّد بن عجلَان وَدَاوُد بن قيس، كلهم عَن عَليّ بن أبي يحيى بن خَلاد بن رَافع الزرقي عَن أَبِيه عَن عَمه رِفَاعَة بن رَافع، وَمِنْهُم من لم يسم رِفَاعَة، قَالَ: عَن عَم لَهُ بَدْرِي، وَمِنْهُم من لم يقل: عَن أَبِيه، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيّ عَن طَرِيق يحيى بن عَليّ بن يحيى عَن أَبِيه عَن جده عَن رِفَاعَة، لَكِن لم يقل التِّرْمِذِيّ: وَفِيه اخْتِلَاف آخر.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله:: (فَدخل رجل) ، هُوَ خَلاد بن رَافع، جد عَليّ بن يحيى أحد الروَاة فِي حَدِيث رِفَاعَة بن رَافع الْمَذْكُور آنِفا، وَفِي رِوَايَة ابْن نمير: (فَدخل رجل وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، جَالس فِي نَاحيَة الْمَسْجِد) .
وَفِي رِوَايَة من رِوَايَة إِسْحَاق بن أبي طَلْحَة: (بَيْنَمَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، جَالس وَنحن حوله) وَوَقع فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ: (إِذْ جَاءَ رجل كالبدوي فصلى فأخف صلَاته) ، وَهَذَا لَا يمْنَع تَفْسِيره بخلاد، لِأَن رِفَاعَة شبهه بالبدوي.
قَوْله:: (فصلى) ، قَالَ الْكرْمَانِي: أَي الصَّلَاة وَلَيْسَ المُرَاد: فصلى على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قلت: وَقع فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من رِوَايَة دَاوُد بن قيس: رَكْعَتَيْنِ، وَلَو اطلع الْكرْمَانِي على هَذَا لم يقل: وَلَيْسَ المُرَاد فصلى على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا قَوْله:: (فَسلم على النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَفِي رِوَايَة لَهُ، على مَا يَجِيء: (ثمَّ جَاءَ فَسلم) ، قَوْله:: (فَرد) ، أَي: فَرد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم السَّلَام، وَفِي رِوَايَة ابْن نمير فِي الاسْتِئْذَان، فَقَالَ: وَعَلَيْك السَّلَام.
قَوْله:: (فَقَالَ: ارْجع) ، ويروى:.

     وَقَالَ ، بِالْوَاو، وَفِي رِوَايَة ابْن عجلَان: (فَقَالَ: أعد صَلَاتك) قَوْله:: (فَرجع فصلى) ، بِالْفَاءِ، ويروى: فَرجع يُصَلِّي، بياء الْمُضَارع، على أَن الْجُمْلَة حَال منتظرة مقدرَة.
قَوْله:: (ثَلَاثًا) أَي: ثَلَاث مَرَّات، وَفِي رِوَايَة ابْن نمير: (فَقَالَ فِي الثَّالِثَة) وَفِي رِوَايَة أبي أُسَامَة: (فَقَالَ فِي الثَّانِيَة أَو الثَّالِثَة) ، وَالرِّوَايَة الَّتِي بِلَا ترديد أولى.
قَوْله:: (فَقَالَ: وَالَّذِي بَعثك) ويروى: (قَالَ: وَالَّذِي بَعثك) ، بِدُونِ الْفَاء.
قَوْله:: (فعلمني) وَفِي رِوَايَة يحيى بن عَليّ: (فَقَالَ الرجل فأرني وَعَلمنِي فَإِنَّمَا أَنا بشر أُصِيب وأخطىء.
فَقَالَ: أجل) قَوْله:: (فَقَالَ: إِذا) ، ويروى: قَالَ، بِدُونِ الْفَاء.
قَوْله:: (إِذا قُمْت إِلَى الصَّلَاة فَكبر) ، وَفِي رِوَايَة ابْن نمير: (إِذا قُمْت إِلَى الصَّلَاة فأسبغ الْوضُوء ثمَّ اسْتقْبل الْقبْلَة فَكبر) .
وَفِي رِوَايَة يحيى بن عَليّ: (فَتَوَضَّأ كَمَا أَمرك الله تَعَالَى ثمَّ تشهد وأقم) .
وَفِي رِوَايَة إِسْحَاق بن أبي طَلْحَة عِنْد النَّسَائِيّ: (إِنَّهَا لم تتمّ صَلَاة أحدكُم حَتَّى يسبغ الْوضُوء كَمَا أمره الله فَيغسل وَجهه وَيَديه إِلَى الْمرْفقين وَيمْسَح بِرَأْسِهِ وَرجلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثمَّ يكبر الله وَيَحْمَدهُ ويمجده) .
وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (ويثني عَلَيْهِ) ، بدل: (ويمجده) .
قَوْله:: (ثمَّ اقْرَأ مَا تيَسّر مَعَك) ، ويروى: (بِمَا مَعَك) ، بِزِيَادَة الْبَاء الْمُوَحدَة، وَلم يخْتَلف فِي هَذَا عَن أبي هُرَيْرَة.
وَأما فِي حَدِيث رِفَاعَة فَفِي رِوَايَة إِسْحَاق الَّتِي ذَكرنَاهَا الْآن: (وَيقْرَأ مَا تيَسّر من الْقُرْآن مِمَّا علمه الله) ، وَفِي رِوَايَة يحيى بن عَليّ: (فَإِن كَانَ مَعَك قُرْآن فاقرأ وإلاّ فاحمد الله وَكبره وَهَلله) .
وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بن عَمْرو عِنْد أبي دَاوُد: (ثمَّ اقْرَأ بِأم الْقُرْآن أَو بِمَا شَاءَ الله) .
وَفِي رِوَايَة أَحْمد وَابْن حبَان: (ثمَّ اقْرَأ بِأم الْقُرْآن ثمَّ اقْرَأ بِمَا شِئْت) .
قَوْله:: (ثمَّ اركع حَتَّى تطمئِن رَاكِعا) أَي: حَال كونك رَاكِعا.
قَوْله:: (حَتَّى تعتدل) ، وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه: (حَتَّى تطمئِن قَائِما) قَوْله:: (وَافْعل ذَلِك) أَي: الْمَذْكُور من كل وَاحِد من التَّكْبِير وَقِرَاءَة مَا تيَسّر وَالرُّكُوع وَالسُّجُود وَالْجُلُوس، وَفِي مُحَمَّد بن عمر: (ثمَّ اصْنَع ذَلِك فِي كل رَكْعَة وَسجْدَة) .
قَوْله:: (فِي صَلَاتك كلهَا) يَعْنِي: من الْفَرْض وَالنَّفْل.

ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: وَهُوَ على وُجُوه: الأول: أَن فِي قَوْله: (فَرد) ، دَلِيلا على وجوب رد السَّلَام على الْمُسلم.
وَفِيه: رد على ابْن الْمُنِير حَيْثُ قَالَ فِيهِ: إِن الموعظة فِي وَقت الْحَاجة أهم من رد السَّلَام، وَلَعَلَّه لم يرد عَلَيْهِ تأديبا على جَهله، فَيُؤْخَذ مِنْهُ التَّأْدِيب بالهجر وَترك رد السَّلَام.
قلت: الْحَامِل لَهُ على ذَلِك عدم وُقُوفه على لَفظه: فَرد، لِأَن هَذِه اللَّفْظَة مَوْجُودَة فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي هَذَا الْموضع، أَو كَأَنَّهُ اعْتمد على النُّسْخَة الَّتِي اعْتمد عَلَيْهَا صَاحب (الْعُمْدَة) ، فَإِنَّهُ سَاق هَذَا الحَدِيث بِلَفْظ هَذَا الْبابُُ وَلَيْسَ فِيهِ لَفْظَة: فَرد.

الثَّانِي: قَالَ عِيَاض فِي قَوْله: (إرجع فصل فَإنَّك لم تصل) ، أَن أَفعَال الْجَاهِل فِي الْعِبَادَة على غير علم لَا تجزىء قلت: هَذَا الَّذِي قَالَه إِنَّمَا يمشي إِذا كَانَ المُرَاد بِالنَّفْيِ نفي الْإِجْزَاء وَلَيْسَ كَذَلِك، بل المُرَاد مِنْهُ نفي الْكَمَال، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي آخر الحَدِيث، وَفِي رِوَايَة القعْنبِي عَن سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (إِذا فعلت هَذَا فقد تمت صَلَاتك، وَمَا انتقصت من هَذَا فَإِنَّمَا انتقصت من صَلَاتك) .
وَقد سمى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلَاته: صَلَاة، فَدلَّ على أَن المُرَاد من النَّفْي نفي الْكَمَال،.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَمن حمله على نفي الْكَمَال تمسك بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يَأْمُرهُ بعد التَّعْلِيم بِالْإِعَادَةِ، فَدلَّ على إجزائها.
والإلزام تَأْخِير الْبَيَان، ثمَّ قَالَ: وَفِيه نظر، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أمره فِي الْمرة الْأَخِيرَة بِالْإِعَادَةِ فَسَأَلَهُ التَّعْلِيم فَعلمه، فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: أعد صَلَاتك على هَذِه الْكَيْفِيَّة.
انْتهى.
قلت: إِنَّمَا أمره بِالْإِعَادَةِ على الْكَيْفِيَّة الْكَامِلَة وَلَا يسْتَلْزم ذَلِك نفي ذَات الصَّلَاة، فالنفي رَاجع إِلَى الصّفة لَا إِلَى الذَّات، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن صلَاته لَو كَانَت فَاسِدَة لَكَانَ الِاشْتِغَال بذلك عَبَثا، وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يُقرر أحدا على الِاشْتِغَال بالعبث، وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذكره الْمُتَأَخّرُونَ من أَصْحَابنَا نصْرَة لأبي حنيفَة وَمُحَمّد فِي ذهابهما إِلَى أَن الطُّمَأْنِينَة فِي الرُّكُوع وَالسُّجُود وَاجِبَة وَلَيْسَت بِفَرْض، حَتَّى قَالَ فِي (الْخُلَاصَة) : إِنَّهَا سنة عِنْدهمَا، وَقَالُوا: لِأَن الرُّكُوع هُوَ الانحناء، وَالسُّجُود هُوَ الانخفاض لُغَة، فتتعلق الركنية بالأدنى مِنْهُمَا.
وَقَالُوا أَيْضا قَوْله تَعَالَى: { ارْكَعُوا واسجدوا} (الْحَج: 77) .
أَمر بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُود، وهما لفظان خاصان يُرَاد بهما الانحناء والانخفاض، فيتأدى ذَلِك بِأَدْنَى مَا ينْطَلق عَلَيْهِ من ذَلِك، وافتراض الطُّمَأْنِينَة فيهمَا بِخَبَر الْوَاحِد زِيَادَة على مُطلق النَّص، وَهُوَ نسخ، وَذَا لَا يجوز.
وَأما الطَّحَاوِيّ الَّذِي هُوَ الْعُمْدَة فِي بَيَان اخْتِلَاف الْعلمَاء فِي الْفِقْه، فَإِنَّهُ لم ينصب الْخلاف بَين أَصْحَابنَا الثَّلَاثَة على هَذَا الْوَجْه، فَإِنَّهُ قَالَ فِي (شرح مَعَاني الْآثَار) : بابُُ مِقْدَار الرُّكُوع وَالسُّجُود الَّذِي لَا يجزىء أقل مِنْهُ، ثمَّ روى حَدِيث ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (إِذا قَالَ أحدكُم فِي رُكُوعه: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيم ثَلَاثًا، فقد تمّ رُكُوعه.
وَذَلِكَ أدناه، وَإِذا قَالَ فِي سُجُوده: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا، فقد تمّ سُجُوده، وَذَلِكَ أدناه) .
وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه، ثمَّ قَالَ: فَذهب قوم إِلَى هَذَا، وَأَرَادَ بِهِ إِسْحَاق وَدَاوُد وَأحمد فِي رِوَايَة مَشْهُورَة، وَسَائِر الظَّاهِرِيَّة، فَإِنَّهُم قَالُوا: مِقْدَار الرُّكُوع وَالسُّجُود الَّذِي لَا يجزىء أقل مِنْهُ هُوَ الْمِقْدَار الَّذِي يَقُول فِيهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيم سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى، كل وَاحِد ثَلَاث مَرَّات، وَخَالفهُم فِي ذَلِك آخَرُونَ، وَأَرَادَ بهم: الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَبا حنيفَة وَأَبا يُوسُف ومحمدا ومالكا وَالشَّافِعِيّ وَعبد الله بن وهب وَأحمد فِي رِوَايَة، فَإِنَّهُم قَالُوا: مِقْدَار الرُّكُوع وَالسُّجُود أَن يرْكَع حَتَّى يَسْتَوِي رَاكِعا، وَمِقْدَار السُّجُود أَن يسْجد حَتَّى يطمئن سَاجِدا، وَهَذَا الْمِقْدَار الَّذِي لَا بُد مِنْهُ وَلَا تتمّ الصَّلَاة، إلاّ بِهِ، ثمَّ روى حَدِيث رِفَاعَة بن رَافع فِي احتجاجهم فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، ثمَّ فِي آخر الْبابُُ قَالَ: وَهَذَا قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد، وَلم ينصب الْخلاف بَينهم مثل مَا نَصبه صَاحب (الْهِدَايَة) و (الْمَبْسُوط) و (الْمُحِيط) وَغَيرهم:

(إِذا قَالَت حذام فصدقوهافإن القَوْل مَا قَالَت حذام)

وَعَن هَذَا أُجِيب عَمَّا قَالَه شرَّاح (الْهِدَايَة) فِي هَذَا الْموضع، فِي شرحنا لَهُ: فَمن أَرَادَ ذَلِك فَليرْجع إِلَيْهِ.

الثَّالِث: إِن قَوْله: (فَكبر) ، يدل على أَن الشُّرُوع فِي الصَّلَاة لَا يكون إِلَّا بِالتَّكْبِيرِ، وَهُوَ فرض بِلَا خلاف.

الرَّابِع: إِن قَوْله: (ثمَّ اقْرَأ) ، يدل على أَن الْقِرَاءَة فرض فِي الصَّلَاة.

الْخَامِس: قَوْله: (مَا تيَسّر) ، يدل على أَن الْفَرْض مُطلق الْقِرَاءَة، وَهُوَ حجَّة لِأَصْحَابِنَا على عدم فَرضِيَّة قِرَاءَة الْفَاتِحَة، إِذْ لَو كَانَت فرضا لأَمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَن الْمقَام مقَام التَّعْلِيم.
.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ قَوْله: (ثمَّ اقْرَأ مَا تيَسّر مَعَك من الْقُرْآن) ، ظَاهره الْإِطْلَاق والتخيير، وَالْمرَاد مِنْهُ فَاتِحَة الْكتاب لمن أحْسنهَا لَا يجْزِيه غَيرهَا، بِدَلِيل قَوْله: (لَا صَلَاة إلاّ بِفَاتِحَة الْكتاب) ، وَهَذَا فِي الْإِطْلَاق كَقَوْلِه تَعَالَى: { فَمن تمتّع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج فَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي} (الْبَقَرَة: 196) .
ثمَّ قَالَ: أقل مَا يجرىء من الْهَدْي معينا مَعْلُوم الْمِقْدَار بِبَيَان السّنة وَهُوَ: الشَّاة.
قلت: يُرِيد الْخطابِيّ أَن يتَّخذ لمذهبه دَلِيلا على حسب اخْتِيَاره بِكَلَام ينْقض أَوله آخِره، وَحَيْثُ اعْترف أَولا أَن ظَاهر هَذَا الْكَلَام الْإِطْلَاق والتخيير، وَحكم الْمُطلق أَن يجْرِي على إِطْلَاقه، وَكَيف يكون المُرَاد مِنْهُ فَاتِحَة الْكتاب وَلَيْسَ فِيهِ إِجْمَال؟ وَقَوله: وَهَذَا فِي الْإِطْلَاق كَقَوْلِه تَعَالَى ... إِلَى آخِره، ظَاهر الْفساد، لِأَن الْهدى اسْم لما يهدى إِلَيّ الْحرم، وَهُوَ يتَنَاوَل الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم، وَفِيه إِجْمَال، وَأَقل مَا يجزىء: شَاة، فَيكون مرَادا بِالسنةِ بِخِلَاف قَوْله: (مَا تيَسّر مَعَك من الْقُرْآن) ، فَإِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِك، لِأَنَّهُ يتَنَاوَل كل مَا يُطلق عَلَيْهِ الْقُرْآن، فَيتَنَاوَل الْفَاتِحَة وَغَيرهَا وَلَيْسَ فِيهِ إِجْمَال، وتخصيصه بِفَاتِحَة الْكتاب من غير مُخَصص تَرْجِيح بِلَا مُرَجّح، وَهُوَ بَاطِل، وَلَا يجوز أَن يكون قَوْله: (لَا صَلَاة إلاّ بِفَاتِحَة الْكتاب) مُخَصّصا، لِأَنَّهُ يُنَافِي معنى التيسر، فينقلب إِلَى تعسر، وَهَذَا بَاطِل، وَلَا يجوز أَن يكون مُفَسرًا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِبْهَام.
وَمن قَالَ: إِنَّه مُجمل كالتيمي وَغَيره، وَحَدِيث عبَادَة مُفَسّر، والمفسر قاضٍ على الْمُجْمل فقد أبعد جدا لِأَنَّهُ لَا يصدق عَلَيْهِ حد الْإِجْمَال كَمَا ذكرنَا عَن قريب،.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: أما حَدِيث: (اقْرَأ مَا تيَسّر) ، فَمَحْمُول على الْفَاتِحَة فَإِنَّهَا متيسرة، أَو على مَا زَاد على الْفَاتِحَة بعْدهَا، أَو على من عجز عَن الْفَاتِحَة قلت: هَذَا تمشية لمذهبه بالتحكم، وكل هَذَا خَارج عَن معنى كَلَام الشَّارِع.
أما قَوْله: فالفاتحة متيسرة، فَلَا يدل عَلَيْهِ تركيب الْكَلَام أصلا، لِأَن ظَاهره يتَنَاوَل الْفَاتِحَة وَغَيرهَا مِمَّا ينْطَلق عَلَيْهِ اسْم الْقُرْآن، وَسورَة الْإِخْلَاص أَكثر تيسرا من الْفَاتِحَة، فَمَا معنى تعْيين الْفَاتِحَة فِي التيسر؟ وَهَذَا تحكم بِلَا دَلِيل.
وَأما قَوْله: أَو على مَا زَاد على الْفَاتِحَة، فَمن أَيْن يدل ظَاهر الحَدِيث على الْفَاتِحَة حَتَّى يكون قَوْله: (مَا تيَسّر) دَالا على مَا زَاد على الْفَاتِحَة؟ وَمَعَ هَذَا إِذا كَانَ مَأْمُورا بِمَا زَاد على الْفَاتِحَة يجب أَن تكون تِلْكَ الزِّيَادَة أَيْضا فرضا، مثل قِرَاءَة الْفَاتِحَة، وَلم يقل بِهِ الشَّافِعِي.
وَأما قَوْله: أَو على من عجز عَن الْفَاتِحَة، فَحَمله عَلَيْهِ غير صَحِيح، لِأَنَّهُ مَا فِي الحَدِيث شَيْء يدل عَلَيْهِ.
وَفِي حَدِيث رِفَاعَة بن رَافع: (ثمَّ اقْرَأ إِن كَانَ مَعَك قُرْآن، فَإِن لم يكن مَعَك قُرْآن فاحمد الله وَكبر وَهَلل) .
كَذَا فِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: (فَإِن كَانَ مَعَك قُرْآن، فإقرأ وإلاّ فاحمد الله وَكبره وَهَلله) .
وَكَيف يحمل قَوْله: (إقرأ مَا تيَسّر) على من عجز عَن الْفَاتِحَة وَقد بَين صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حكم الْعَاجِز عَن الْقِرَاءَة مُسْتقِلّا بِرَأْسِهِ؟
السَّادِس: فِي قَوْله: حَتَّى تطمئِن) فِي الْمَوْضِعَيْنِ، يدل على وجوب الطُّمَأْنِينَة فِي الرُّكُوع وَالسُّجُود.

السَّابِع: قَالَ الْخطابِيّ فِي قَوْله: (وَافْعل ذَلِك فِي صَلَاتك كلهَا) دَلِيل على أَن عَلَيْهِ أَن يقْرَأ فِي كل رَكْعَة، كَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَن يرْكَع وَيسْجد فِي كل رَكْعَة،.

     وَقَالَ  أَصْحَاب الرَّأْي: إِن شَاءَ أَن يقْرَأ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ قَرَأَ، وَإِن شَاءَ أَن يسبح سبح، وَإِن لم يقْرَأ فيهمَا شَيْئا أَجْزَأته، وَرووا فِيهِ عَن عَليّ بن أبي طَالب أَنه قَالَ: يقْرَأ فِي الْأَوليين ويسبح فِي الْأُخْرَيَيْنِ من طَرِيق الْحَارِث عَنهُ، وَقد تكلم النَّاس فِي الْحَارِث قَدِيما، وَطعن فِيهِ الشّعبِيّ، ورماه بِالْكَذِبِ، وَتَركه أَصْحَاب (الصَّحِيح) : وَلَو صَحَّ ذَلِك عَن عَليّ لم يكن حجَّة، لِأَن جمَاعَة من الصَّحَابَة قد خالفوه فِي ذَلِك مِنْهُم: أَبُو بكر وَعمر وَابْن مَسْعُود وَعَائِشَة وَغَيرهم، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أولى مَا اتبع فِيهِ، بل قد ثَبت عَن عَليّ من طَرِيق عبيد الله بن أبي رَافع أَنه كَانَ يَأْمر أَن يقْرَأ فِي الْأَوليين من الظّهْر وَالْعصر بِفَاتِحَة الْكتاب وَسورَة، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَة الْكتاب.
انْتهى.
قلت: إِن سلمنَا أَن قَوْله ذَلِك دلّ على أَن يقْرَأ فِي كل رَكْعَة، فقد دلّ غَيره أَن الْقِرَاءَة فِي الْأَوليين قِرَاءَة فِي الْأُخْرَيَيْنِ، بِدَلِيل مَا رُوِيَ عَن جَابر بن سَمُرَة قَالَ: شكا أهل الْكُوفَة سَعْدا.
.
الحَدِيث، وَفِيه: (وأحذف فِي الْأُخْرَيَيْنِ) ، أَي: أحذف الْقِرَاءَة فِي الْأُخْرَيَيْنِ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي هَذَا الْبابُُ، وتفسيرهم بقَوْلهمْ: أقصر الْقِرَاءَة وَلَا أحذفها، خلاف الظَّاهِر، وَإِن طعنوا فِي الرِّوَايَة عَن عَليّ من طَرِيق الْحَارِث فقد روى عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) : عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن عبيد الله بن أبي رَافع، قَالَ: كَانَ عَليّ يقْرَأ فِي الْأَوليين من الظّهْر وَالْعصر بِأم الْقُرْآن وَسورَة، وَلَا يقْرَأ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح، وَهَذَا يُنَافِي قَول الْخطابِيّ، بل قد ثَبت عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، من طَرِيق عبيد الله.
.
الخ، وَقَوله: لِأَن جمَاعَة من الصَّحَابَة قد خالفوه، غير مُسلم، لِأَنَّهُ رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود مثله، على مَا روى ابْن أبي شيبَة، قَالَ: حَدثنَا شريك عَن أبي إِسْحَاق عَن عَليّ وَعبد الله أَنَّهُمَا قَالَا: قَرَأَ فِي الْأَوليين وَسبح فِي الْأُخْرَيَيْنِ، وَكَذَا روى عَن عَائِشَة، وَكَذَا روى عَن إِبْرَاهِيم وَابْن الْأسود.
وَفِي (التَّهْذِيب) لِابْنِ جرير الطَّبَرِيّ:.

     وَقَالَ  حَمَّاد عَن إِبْرَاهِيم عَن ابْن مَسْعُود، إِنَّه كَانَ لَا يقْرَأ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ من الظّهْر وَالْعصر شَيْئا.
.

     وَقَالَ  هِلَال بن سِنَان: صليت إِلَى جنب عبد الله بن يزِيد فَسَمعته يسبح، وروى مَنْصُور عَن جرير عَن أبراهيم قَالَ: لَيْسَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ من الْمَكْتُوبَة قِرَاءَة، سبح الله وَاذْكُر الله.
.

     وَقَالَ  سُفْيَان الثَّوْريّ: إقرأ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَوليين بِفَاتِحَة الْكتاب وَسورَة، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَة الْكتاب أَو سبح فيهمَا بِقدر الْفَاتِحَة، أَي: ذَلِك فعلت أجزأك، وَإِن سبح فِي الْأُخْرَيَيْنِ أحب إِلَيّ.
فَإِن قلت: لم يبين فِي هَذَا الحَدِيث بعض الْوَاجِبَات: كالنية والقعدة الْأَخِيرَة وترتيب الْأَركان، وَكَذَا بعض الْأَفْعَال الْمُخْتَلف فِي وُجُوبهَا كالتشهد فِي الْأَخير، وَالصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وإصابة لَفْظَة السَّلَام.
قلت: قيل فِي جَوَابه: لَعَلَّ هَذِه الْأَشْيَاء كَانَت مَعْلُومَة عِنْد هَذَا الرجل، فَلذَلِك لم يبينها قيل: يجوز أَن يكون الرَّاوِي اختصر ذكر هَذِه الْأَشْيَاء لِأَن الْمقَام مقَام التَّعْلِيم، وَلَا يجوز تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة، وَلِهَذَا قَالَ الرجل فِي حَدِيث رِفَاعَة، فِيمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ: (فأرني وَعَلمنِي فَإِنَّمَا أَنا بشر أُصِيب وأخطىء) .
وَقَوله: (عَلمنِي) ، يتَنَاوَل جَمِيع مَا يتَعَلَّق بِالصَّلَاةِ من الْوَاجِبَات القولية والفعلية.
قلت: فِيهِ تَأمل،.

     وَقَالَ  ابْن دَقِيق الْعِيد: تكَرر من الْفُقَهَاء الِاسْتِدْلَال بِهَذَا الحَدِيث على وجوب مَا ذكر فِيهِ، وعَلى عدم وجوب مَا لم يذكر، أما الْوُجُوب فلتعلق الْأَمر بِهِ، وَأما عَدمه فَلَيْسَ لمُجَرّد كَون الأَصْل عدم الْوُجُوب، بل لكَون الْبابُُ مَوضِع تَعْلِيم وَبَيَان للجاهل، وَذَلِكَ يَقْتَضِي انحصار الْوَاجِبَات فِيمَا ذكر.
انْتهى.
قلت: إِنَّمَا يَقْتَضِي انحصار الْوَاجِبَات فِيمَا ذكر أَن لَو لم يذكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَمِيع الْوَاجِبَات الَّتِي فِي الصَّلَاة وَالَّذِي لم يذكرهُ ظَاهرا، أما اعْتِمَادًا على الْعلم بِوُجُوبِهِ قبل ذَلِك أَو هُوَ اخْتِصَار من الرَّاوِي: كَمَا قيل، وَقد ذَكرْنَاهُ.
على أَنا نقُول: إِذا جَاءَت صِيغَة الْأَمر فِي حَدِيث آخر بِشَيْء لم يذكر فِي هَذَا الحَدِيث تقدم، وَيعْمل بهَا.

الثَّامِن: فِيهِ وجوب الْإِعَادَة على من يخل بِشَيْء من الْأَركان، واستحبابُ الْإِعَادَة على من يخل بِشَيْء من الْوَاجِبَات للِاحْتِيَاط فِي بابُُ الْعِبَادَات.

التَّاسِع: فِيهِ أَن الشُّرُوع فِي النَّافِلَة مُلْزم، لِأَن الظَّاهِر أَن صَلَاة ذَلِك الرجل كَانَت نَافِلَة.

الْعَاشِر: فِيهِ الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر.

الحاي عشر: فِيهِ حسن التَّعْلِيم بالرفق دون التَّغْلِيظ والتعنيف.

الثَّانِي عشر: فِيهِ إِيضَاح الْمَسْأَلَة وتلخيص الْمَقَاصِد.

الثَّالِث عشر: فِيهِ جُلُوس الإِمَام فِي الْمَسْجِد وجلوس أَصْحَابه مَعَه.

الرَّابِع عشر: فِيهِ التَّسْلِيم للْعَالم والانقياد لَهُ.

الْخَامِس عشر: فِيهِ الإعتراف بالتقصير، وَالتَّصْرِيح بِحكم البشرية فِي جَوَاز الْخَطَأ.

السَّادِس عشر: فِيهِ حسن خلقه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولطف معاشرته مَعَ أَصْحَابه.

السَّابِع عشر: قَالَ عِيَاض: فِيهِ حجَّة على من أجَاز الْقِرَاءَة بِالْفَارِسِيَّةِ، لكَون مَا لَيْسَ بِلِسَان الْعَرَب لَا يُسمى قُرْآنًا.
قلت: هَذَا الْخلاف مَبْنِيّ على أَن الْقُرْآن اسْم للمعنى فَقَط، أَو للنظم وَالْمعْنَى جَمِيعًا، فَمن ذهب إِلَى أَنه اسْم للمعنى احْتج بقوله تَعَالَى: { وَإنَّهُ لفي زبر الْأَوَّلين} (الشُّعَرَاء: 196) .
وَلم يكن الْقُرْآن فِي زبر الْأَوَّلين بِلِسَان الْعَرَب، وَقَوله: لكَون مَا لَيْسَ بِلِسَان الْعَرَب لَا يُسمى قُرْآنًا فِيهِ نظر، لِأَن التَّوْرَاة الَّذِي أنزلهُ الله تَعَالَى على مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يُطلق على أَنه قُرْآن وَهُوَ لَيْسَ بِلِسَان الْعَرَب، وَكَذَلِكَ الْإِنْجِيل وَالزَّبُور، لِأَن الْقُرْآن كَلَام الله تَعَالَى قَائِم بِذَاتِهِ لَا يتَجَزَّأ وَلَا ينْفَصل عَنهُ، غير أَنه إِذا نزل بِلِسَان الْعَرَب سمي قُرْآنًا، وَلما نزل على مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، سمي توراة، وَلما نزل على عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، سمي إنجيلاً، وَلما نزل على دَاوُد سمي زبورا.
وَاخْتِلَاف الْعبارَات باخْتلَاف الاعتبارات.

الثَّامِن عشر: فِيهِ أَن الْمُفْتِي إِذا سُئِلَ عَن شَيْء وَكَانَ هُنَاكَ شَيْء آخر يحْتَاج إِلَيْهِ السَّائِل يسْتَحبّ لَهُ أَن يذكرهُ لَهُ، وَإِن لم يسْأَله عَنهُ، وَيكون ذَلِك مِنْهُ نصيحة لَهُ وَزِيَادَة خير.

التَّاسِع عشر: فِيهِ اسْتِحْبابُُ صَبر الْآمِر بِالْمَعْرُوفِ والناهي عَن الْمُنكر على من يُنكر فعله أَو يَأْمُرهُ بِفِعْلِهِ، لاحْتِمَال نِسْيَان فِيهِ أَو تعقله فيتذكره، وَلَيْسَ ذَلِك من بابُُ التَّقْرِير على الْخَطَأ.

الْعشْرُونَ: السُّؤَال الْوَارِد فِيهِ وَهُوَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَيفَ سكت عَن تَعْلِيمه أَو لَا؟ فَقَالَ التوربشتي: إِنَّمَا سكت عَن تَعْلِيمه أَولا لِأَنَّهُ لما رَجَعَ لم يستكشف الْحَال من مورد الْوَحْي، وَكَأَنَّهُ اغْترَّ بِمَا عِنْده من الْعلم فَسكت عَن تَعْلِيمه زجرا لَهُ وتأديبا وإرشادا إِلَى استكشاف مَا استبهم عَلَيْهِ، فَلَمَّا طلب كشف الْحَال من مورده أرشده إِلَيْهِ،.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: إِنَّمَا لم يُعلمهُ أَولا ليَكُون أبلغ فِي تَعْرِيفه وتعريف غَيره بِصفة الصَّلَاة المجزئة،.

     وَقَالَ  ابْن الْجَوْزِيّ: يحْتَمل أَن يكون ترديده لتفخيم الْأَمر وتعظيمه عَلَيْهِ، وَرَأى أَن الْوَقْت لم يفته فَأَرَادَ إيقاظ الفطنة للمتروك،.

     وَقَالَ  ابْن دَقِيق الْعِيد: لَيْسَ التَّقْرِير بِدَلِيل على الْجَوَاز مُطلقًا، بل لَا بُد من انْتِفَاء الْمَوَانِع، وَلَا شكّ أَن فِي زِيَادَة قبُول التَّعَلُّم لما يلقى إِلَيْهِ بعد تكْرَار فعله واستجماع نَفسه وَتوجه سُؤَاله مصلحَة مَانِعَة من وجوب الْمُبَادرَة إِلَى التَّعَلُّم، لَا سِيمَا مَعَ عدم خوف الْفَوات، إِمَّا بِنَاء على ظَاهر الْحَال أَو بِوَحْي خَاص.




( بابُُ القِرَاءَةِ فِي الظهرْ)
أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم الْقِرَاءَة فِي صَلَاة الظّهْر.
قَالَ الْكرْمَانِي: الظَّاهِر أَن المُرَاد بهَا بَيَان قِرَاءَة غير الْفَاتِحَة قلت: الْعجب مِنْهُ كَيفَ يَقُول ذَلِك؟ وَأَيْنَ الظَّاهِر الَّذِي يدل على مَا قَالَه؟ بل مُرَاده الرَّد على من لَا يُوجب الْقِرَاءَة فِي الظّهْر، وَقد ذكرنَا أَن قوما، مِنْهُم: سُوَيْد بن غَفلَة وَالْحسن بن صَالح وَإِبْرَاهِيم بن علية وَمَالك فِي رِوَايَة قَالُوا: لَا قِرَاءَة فِي الظّهْر وَالْعصر.



[ قــ :737 ... غــ :758 ]
- ح دَّثنا أبُو النُّعْمَانِ قَالَ حدَّثنا أبُو عَوَانَةَ عنْ عَبْدِ المَلِكِ بنِ عُمَيْرٍ عَنْ جابِرِ بنَ سَمُرَةَ قَالَ قَالَ سَعْدٌ كُنّتُ أُصَلِّي بِهِمْ صَلاَةَ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلاَتَيْ الْعَشِيِّ لَا أخْرِمُ عَنْهَا كُنْتُ أرْكُدُ فِي الأُولَيَيْنِ وأخِفُّ فِي اْلأُخْرَيَيْنِ فقالَ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ.
( انْظُر الحَدِيث 755 وطرفه) .


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( كنت أركد فِي الْأَوليين) ، لِأَن ركوده فيهمَا كَانَ للْقِرَاءَة.
وَقَوله: ( صَلَاة الْعشي) هِيَ صَلَاة الظّهْر وَالْعصر وَقد مر هَذَا الحَدِيث فِي الْبابُُ السَّابِق بِتَمَامِهِ، أخرجه عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن أبي عوَانَة الوضاح الْيَشْكُرِي، وَهَهُنَا: عَن أبي النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي الْبَصْرِيّ عَن أبي عوَانَة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً فِي الْبابُُ السَّابِق.

قَوْله: ( فأخف) ، بِضَم الْهمزَة، ويروى: فأخفف، ويروى: ( فأحذف) .