فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب إذا وقع الذباب في الإناء

( بابٌُ إذَا وقَع الذُّبابُُ فِي الإِناءِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي مَا إِذا وَقع الذُّبابُُ فِي الْإِنَاء كَيفَ يكون حكمه، والذبابُ بِضَم الذَّال الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة.
قَالَ أَبُو هِلَال العسكري: الذُّبابُُ وَاحِد وَالْجمع ذبان كغربان يَعْنِي: بِكَسْر الذَّال، والعامة تَقول: ذُبابُُ، للْجمع والواحدة: ذُبابَُُة.
كقردانة وَهُوَ خطأ، وَكَذَا نقل عَن أبي حَاتِم السّخْتِيَانِيّ: أَنه خطا، وَنقل ابْن سَيّده فِي ( الْمُحكم) عَن أبي عُبَيْدَة عَن خلف الْأَحْمَر تَجْوِيز مَا زعم العسكري أَنه خطأ، وَحكى سِيبَوَيْهٍ فِي الْجمع ذب بِضَم أَوله وَالتَّشْدِيد،.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: الذُّبابُُ مَعْرُوف، الْوَاحِدَة ذُبابَُُة، وَلَا تقل: ذُبابَُُة وَجمع الْقلَّة أذبة وَالْكثير ذُبابُُ مثل غراب وأغربة وغربان، وَأَرْض مذبة ذَات ذُبابُُ، وَقيل: سمي ذبابُاً لِكَثْرَة حركته واضطرابه.
وَقد أخرج أَبُو يعلى بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ عَن ابْن عمر مَرْفُوعا: عمر الذُّبابُُ أَرْبَعُونَ لَيْلَة، والذبابُ كُله فِي النَّار إلاَّ النَّحْل،.

     وَقَالَ  الجاحظ: كَونه فِي النَّار لَيْسَ تعذيباً لَهُ بل ليعذب أهل النَّار بِهِ،.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: يُقَال: إِنَّه لَيْسَ شَيْء من الطُّيُور يلغ إلاَّ الذُّبابُُ.
.

     وَقَالَ  أفلاطون: الذُّبابُُ أحرص الْأَشْيَاء حَتَّى إِنَّه يلقِي نَفسه فِي كل شَيْء وَلَو كَانَ فِيهِ هَلَاكه، ويتولد من العفونة، وَلَا جفن للذبابُة لصِغَر حدقتها، والجفن يصقل الحدقة فالذبابُة تصقل بِيَدَيْهَا فَلَا تزَال تمسح عيينها وَهُوَ من أَكثر الطُّيُور سفاداً، وَرُبمَا بَقِي عَامَّة الْيَوْم على الْأُنْثَى، وَأدنى الْحِكْمَة فِي خلقه: أَذَى الْجَبابُُِرَة، وَقيل: لَوْلَا هِيَ لجافت الدُّنْيَا.



[ قــ :5469 ... غــ :5782 ]
- حدّثنا قُتَيْبَةُ حدَّثنا إسْماعِيلُ بنُ مُسْلِمٍ مَوْلَى بَني تَميمٍ عنْ عُبَيْدِ بنُ حُنَيْنٍ مَوْلَى بَني زُرَيْقٍ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إذَا وقَعَ الذُّبابُُ فِي إناءِ أحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ كلَّهُ ثُمَّ ليَطْرَحْهُ، فإنَّ فِي إحْدَى جَناحَيْهِ شِفاءً وَفِي الآخَرِ دَاء.
( انْظُر الحَدِيث: 3320) .


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي صدر الحَدِيث.
والْحَدِيث قد مر فِي بَدْء الْخلق فِي: بابُُ إِذا وَقع الذُّبابُُ فِي شراب أحدكُم إِلَى آخِره.
فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن خَالِد بن مخلد عَن سُلَيْمَان بن بِلَال عَن عتبَة بن مُسلم إِلَى آخِره، وَلَفظه: إِذا وَقع الذُّبابُُ فِي شراب أحدكُم، وَلَفظ الْإِنَاء أشمل، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.

قَوْله: ( كُله) تَأْكِيد رفع توهم الْمجَاز من الِاكْتِفَاء بغمس بعضه.
قَوْله: ( فَإِن فِي إِحْدَى جناحيه) وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: فَإِن فِي أحد، والجناح يذكر وَيُؤَنث، وَقيل: أنث بِاعْتِبَار الْيَد وَحَقِيقَته للطائر، وَيُقَال لغيره على سَبِيل الْمجَاز كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { واخفض لَهما جنَاح الذل} ( الْإِسْرَاء: 24) وَلم يَقع تعْيين الْجنَاح الَّذِي فِيهِ الشِّفَاء، وَذكر عَن بعض الْعلمَاء أَنه تَأمله فَوَجَدَهُ يَتَّقِي بجناحه الْأَيْسَر، فَعرف أَن الْأَيْمن هُوَ الَّذِي فِيهِ الشِّفَاء.
قَوْله ( دَاء) المُرَاد بِهِ السم الَّذِي فِيهِ، ويوضحه حَدِيث أبي سعيد، فَإِن فِيهِ أَنه يقدم السم وَيُؤَخر الشِّفَاء وَلَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى التَّخْرِيج الَّذِي تكلفه بعض الشُّرَّاح، فَقَالَ: إِن فِي اللَّفْظ مجَازًا، وَهُوَ كَون الدَّاء فِي أحد الجناحين فَهُوَ إِمَّا من مجَاز الْحَذف، وَالتَّقْدِير: فَإِن فِي أحد جناحيه سَبَب دَاء، وَإِمَّا مُبَالغَة بِأَن يَجْعَل كل الدَّاء فِي أحد جناحيه لما كَانَ سَببا لَهُ.
.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: هَذَا مِمَّا يُنكره من لم يشْرَح الله قلبه بِنور الْمعرفَة، وَلم يتعجب من النحلة جمع الله فِيهَا الشِّفَاء والسم مَعًا، فتعسل من أَعْلَاهَا وَتَسِم من أَسْفَلهَا بحمتها، والحية سمها قَاتل ولحمها مِمَّا يستشفى بِهِ من الترياق الْأَكْبَر من سمها، فريقها دَاء ولحمها دَوَاء، وَلَا حَاجَة لنا مَعَ قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الصَّادِق الصدوق إِلَى النَّظَائِر، وأقوال أهل الطِّبّ الَّذين مَا وصلوا إِلَى علمهمْ إلاَّ بالتجربة، والتجربة خطر، وَالله على كل شَيْء قدير، وَإِلَيْهِ التَّوَكُّل والمصير.