فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب قطع الشجر والنخل

( بابُُ قَطْعِ الشَّجَرِ والنخْلِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم قطع الشّجر والنخيل، وَلم يذكر حكمه اكْتِفَاء بِمَا فِي الحَدِيث، وَحكمه أَنه يجوز إِذا كَانَ الْقطع لمصْلحَة مثل إنكاء الْعَدو وَنَحْوه، وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث سعيد بن جُبَير، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فِي قَول الله تَعَالَى: { مَا قطعْتُمْ من لينَة أَو تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَة على أُصُولهَا} ( الْحَشْر: 5) .
قَالَ: اللينة النَّخْلَة { وليخزي الْفَاسِقين} ( الْحَشْر: 5) .
قَالَ: استنزلوهم من حصونهم، قَالَ: وَأمرُوا بِقطع النّخل، فحك فِي صُدُورهمْ، قَالَ الْمُسلمُونَ: قد قَطعنَا بَعْضًا وَتَركنَا بَعْضًا فلنسألن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَل لنا فِيمَا قَطعنَا من أجر؟ وَهل علينا فِيمَا تركنَا من وزر؟ فَأنْزل الله عز وَجل: { مَا قطعْتُمْ من لينَة} ( الْحَشْر: 5) .
الْآيَة، وَيَأْتِي عَن البُخَارِيّ الْآن من حَدِيث ابْن عمر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حرق نخل بني النَّضِير وَقطع، وَهِي البويرة.
.

     وَقَالَ  التِّرْمِذِيّ: وَذهب قوم من أهل الْعلم إِلَى هَذَا الحَدِيث وَلم يرَوا بَأْسا بِقطع الْأَشْجَار وتخريب الْحُصُون، وَكره بَعضهم ذَلِك، وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ.
قَالَ الْأَوْزَاعِيّ: نهى أَبُو بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن يقطع شَجرا مثمراً أَو يخرب عَامِرًا، وَعمل بذلك الْمُسلمُونَ بعده.
.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي: لَا بَأْس بالتحريق فِي أَرض الْعَدو، وَقطع الْأَشْجَار وَالثِّمَار.
.

     وَقَالَ  أَحْمد: وَقد يكون فِي مَوَاضِع لَا يَجدونَ مِنْهُ بدا، فَأَما بالعبث فَلَا يحرق.
.

     وَقَالَ  إِسْحَاق: التحريق سنة إِذا كَانَ إنكاء فيهم، انْتهى كَلَام التِّرْمِذِيّ، وَذكر بعض أهل الْعلم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قطع نَخْلهمْ ليغيظهم بذلك، وَنزل فِي ذَلِك: { وليخزي الْفَاسِقين} ( الْحَشْر: 5) .
فَكَانَ قطع النّخل وعقر الشّجر خزياً لَهُم.
وَحكى النَّوَوِيّ فِي ( شرح مُسلم) مَا حَكَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن الشَّافِعِي: أَنه مَذْهَب الْجُمْهُور وَالْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة،.

     وَقَالَ  ابْن بطال: ذهب طَائِفَة إِلَى أَنه إِذا رجى أَن يصير الْبَلَد للْمُسلمين فَلَا بَأْس أَن يتْرك ثمارهم، فَإِن قلت: روى النَّسَائِيّ من حَدِيث عبد الله بن حبشِي، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( من قطع سِدْرَة صوب الله رَأسه فِي النَّار) .
وَعَن عُرْوَة مَرْفُوعا، نَحوه مُرْسلا.
قلت: كَانَ عُرْوَة يقطعهُ من أرضه، وَيحمل الحَدِيث على تَقْدِير صِحَّته أَنه أَرَادَ سدر مَكَّة، وَقيل: سدر الْمَدِينَة، لِأَنَّهُ أنس وظل لمن جاءهما، وَلِهَذَا كَانَ عُرْوَة يقطعهُ من أرضه لَا أَنه كَانَ يقطعهُ من الْأَمَاكِن الَّتِي يسْتَأْنس بهَا، وَلَا يستظل الْغَرِيب بهَا هُوَ وبهيمته.

وَقَالَ أنَسُ أمَرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالنَّخْلِ فقُطِعَ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، ويوضح الحكم الَّذِي لم يذكر فِيهَا، وَهُوَ طرف من حَدِيث طَوِيل قد ذكره فِي: بابُُ نبش قُبُور الْجَاهِلِيَّة بَين أَبْوَاب الْمَسَاجِد فِي كتاب الصَّلَاة.



[ قــ :2229 ... غــ :2326 ]
- حدَّثنا موسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا جُوَيْرِيَةُ عنْ نافِعٍ عنْ عبدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ حرَّقَ نَخْلَ بَني النَّضِيرِ وقَطَعَ وهْيَ البوَيْرَةُ ولَهَا يَقولُ حَسَّانُ.


( وهَانَ علَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ حَرِيقٌ بالبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ) .


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَجُوَيْرِية بن أَسمَاء، وَعبد الله: هُوَ ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.

والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن إِسْحَاق بن حَيَّان.

قَوْله: ( بني النَّضِير) ، بِفَتْح النُّون وَكسر الضَّاد الْمُعْجَمَة، وهم قوم من الْيَهُود،.

     وَقَالَ  ابْن إِسْحَاق: قُرَيْظَة وَالنضير والنحام وَعمر وَبَنُو الْخَزْرَج بن الصَّرِيح بن التومان بن السمط بن اليسع بن سعد بن لاوي ابْن خير بن النحام بن تخوم بن عازر بن عذر بن هَارُون بن عمرَان بن يصهر بن لاوي بن يَعْقُوب، وَهُوَ إِسْرَائِيل بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، صلوَات الله عَلَيْهِم وَسَلَامه،.

     وَقَالَ  ابْن إِسْحَاق: لم يسلم من بني النَّضِير إلاَّ رجلَانِ: يَامِين بن عُمَيْر بن عَمْرو بن جحاش، وَأَبُو سعيد بن وهب، أسلما على أموالهما فأحرزاها، وَالنِّسْبَة إِلَى بني النَّضِير: النضيري، وَيُقَال فِيهِ: النضري أَيْضا.
قَوْله: ( وَهِي البويرة) ، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الْوَاو وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالراء مَوضِع مَعْرُوف من بلد بني النَّضِير.
قَوْله: ( وَلها) أَي: وللبويرة يَقُول حسان بن ثَابت بن الْمُنْذر بن حرَام الخزرجي الْأنْصَارِيّ: مَاتَ قبل الْأَرْبَعين فِي خلَافَة عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَالْبَيْت الْمَذْكُور من الْمُتَوَاتر، وَلما أنْشدهُ حسان أَجَابَهُ سُفْيَان بن الْحَارِث بقوله:

( أدام الله ذَلِك من صنيعوحرق فِي نَوَاحِيهَا السعير)

قَوْله: ( وَهَان) ، وَفِي رِوَايَة الْقَابِسِيّ: هان، بِلَا وَاو، فَيكون الْبَيْت مخروماً.
قَوْله: ( على سراة) ، بِفَتْح السِّين: السادات وَهُوَ جمع السّري على غير قِيَاس.
قَوْله: ( بني لؤَي) ، بِضَم اللَّام وَفتح الْهمزَة مصغر: لأي، اسْم رجل، وَالْمرَاد مِنْهُم: أكَابِر قُرَيْش.
قَوْله: ( مستطير) أَي: منتشر.


( بابٌُ)

أَي: هَذَا بابُُ فِيهِ ذكر حَدِيث، وَكَذَا وَقع بِغَيْر تَرْجَمَة عِنْد الْجَمِيع، وَهُوَ بِمَنْزِلَة الْفَصْل من الْبابُُ الَّذِي قبله.



[ قــ :30 ... غــ :37 ]
- حدَّثنا مُحَمَّدٌ قَالَ أخبرنَا عبدُ الله قَالَ أخبرنَا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ عنْ حَنْظَلَة بنِ قَيْسٍ الأنْصَارِيِّ قَالَ سَمِعَ رَافِعَ بنَ خَدِيجٍ قَالَ كُنَّا أكْثَرَ أهْلِ المَدِينَةِ مُزْدَرَعاً كُنَّا نُكْرِي الأرْضَ بالنَّاحِيَةِ مِنْها مُسَمَّى لِسَيِّدِ الأرْضِ قَالَ فَمِمَّا يُصَابُ ذَلِكَ وتَسْلَمُ الأرْضُ ومِمَّا يُصابُ الأرْضُ ويَسْلمُ ذَلِكَ فَنُهِينا وأمَّا الذَّهَبُ والوَرِقُ فلَم يَكُنْ يَوْمَئِذٍ.
.


قيل: لَا وَجه لإدخال هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبابُُ، وَلَعَلَّ النَّاسِخ غلط فَكَتبهُ فِي غير مَوْضِعه.
وَأجِيب: بِأَن لَهُ وَجها، لَعَلَّ وَجههَا من حَيْثُ إِن من اكترى أَرضًا لمُدَّة فَلهُ أَن يزرع ويغرس فِيهَا مَا شَاءَ، فَإِذا تمت الْمدَّة فَلصَاحِب الأَرْض طلبه بقلعهما، فَهَذَا من بابُُ إِبَاحَة قطع الشّجر.
قلت: هَذَا الْمِقْدَار كَاف فِي طلب الْمُطَابقَة فِي ذكر متن الحَدِيث هُنَا.

ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن مقَاتل.
الثَّانِي: عبد الله بن الْمُبَارك.
الثَّالِث: يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ.
الرَّابِع: حَنْظَلَة بن قيس الزرقي، بِضَم الزَّاي وَفتح الرَّاء وبالقاف: الْأنْصَارِيّ.
الْخَامِس: رَافع بن خديج، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر الدَّال الْمُهْملَة وبالجيم: ابْن رَافع الْأنْصَارِيّ.

ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع والإخبار كَذَلِك فِي موضِعين.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين.
وَفِيه: السماع.
وَفِيه: أَن شَيْخه وَشَيخ شَيْخه رازيان وَيحيى وحَنْظَلَة مدنيان.
وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأَنه ذكر مُجَردا عَن النِّسْبَة وَكَذَلِكَ عبد الله ذكر مُجَردا.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمُزَارعَة عَن صَدَقَة عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَفِي الشُّرُوط عَن مَالك بن إِسْمَاعِيل.
وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن عَمْرو النَّاقِد عَن سُفْيَان وَعَن أبي الرّبيع وَعَن أبي مُوسَى.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى الرَّازِيّ وَعَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث وَعَن قُتَيْبَة عَن مَالك.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْمُزَارعَة عَن مُغيرَة بن عبد الرَّحْمَن وَعَن عَمْرو بن عَليّ وَعَن يحيى بن حبيب وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام عَن مُحَمَّد بن الصَّباح عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة بِهِ.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( مزدرعاً) ، نصب على التَّمْيِيز، والمزدرع مَكَان الزَّرْع وَيجوز أَن يكون مصدرا، أَي: كُنَّا أَكثر أهل الْمَدِينَة زرعا، والمزدرع أَصله المزترع لِأَنَّهُ من بابُُ الافتعال، وَلَكِن قلب التَّاء دَالا لِأَن مخرج التَّاء لَا يُوَافق الزَّاي لشدتها.
قَوْله: ( نكرِي الأَرْض) ، بِضَم النُّون من الإكراء.
قَوْله: ( مُسَمّى) ، الْقيَاس فِيهِ مُسَمَّاة لِأَنَّهُ حَال من النَّاحِيَة، وَلَكِن ذكر بِاعْتِبَار أَن نَاحيَة الشَّيْء بعضه، وَيجوز أَن يكون التَّذْكِير بِاعْتِبَار الزَّرْع، ويروى: تسمي، بِلَفْظ الْفِعْل، وَهُوَ أَيْضا حَال.
قَوْله: ( لسَيِّد الأَرْض) ، أَي: مَالِكهَا، جعل الأَرْض كَالْعَبْدِ الْمَمْلُوك وَأطلق السَّيِّد عَلَيْهِ.
قَوْله: ( قَالَ) ، أَي: رَافع بن خديج.
قَوْله: ( فمما يصاب ذَلِك) ، أَي: فكثيراً مَا يصاب ذَلِك الْبَعْض، أَي: يَقع لَهُ مُصِيبَة وَيصير مؤوفاً فيتلف ذَلِك وَيسلم بَاقِي الأَرْض، وَبِالْعَكْسِ تَارَة، وَهُوَ معنى قَوْله: وَمِمَّا يصاب الأَرْض وَيسلم ذَلِك أَي: الْبَعْض، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: فمهما، فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَرِوَايَة الْأَكْثَرين أولى لِأَن: مهما، يسْتَعْمل لأحد معَان ثَلَاثَة: أَحدهَا: يتَضَمَّن معنى الشَّرْط فِيمَا لَا يعقل غير الزَّمَان.
وَالثَّانِي: الزَّمَان وَالشّرط، والزمخشري يُنكر ذَلِك.
وَالثَّالِث: الِاسْتِفْهَام، وَلَا يُنَاسب مهما هُنَا إلاَّ بالتعسف، يعلم ذَلِك من يتَأَمَّل فِيهِ، وَأما من لَا عَرَبِيَّة لَهُ فَلَا يفهم من ذَلِك شَيْئا.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَن يكون: مهما، بِمَعْنى: رُبمَا، لِأَن حُرُوف الْجَرّ يُقَام بَعْضهَا مقَام الْبَعْض، سِيمَا، وَمن، التبعضية تناسب: رب، التقليلية، وعَلى هَذَا الِاحْتِمَال لَا يحْتَاج أَن يُقَال: إِن لفظ ذَلِك من بابُُ وضع الْمظهر مَوضِع الْمُضمر.
قَوْله: ( فنهينا) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: نهينَا عَن هَذَا الإكراء على هَذَا الْوَجْه لِأَنَّهُ مُوجب لحرمان أحد الطَّرفَيْنِ، فَيُؤَدِّي إِلَى الْأكل بِالْبَاطِلِ.
قَوْله: ( وَالْوَرق) ، بِكَسْر الرَّاء هُوَ الْفضة، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: الْفضة عوض الورث.
قَوْله: ( فَلم يكن يَوْمئِذٍ) ، يَعْنِي: فَلم يكن الذَّهَب وَالْفِضَّة يكرى بهما، لَا أَن مَعْنَاهُ فَلَيْسَ الذَّهَب وَالْفِضَّة موجودين.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن إكراء الأَرْض بِجُزْء مِنْهَا، أَي: بِجُزْء مِمَّا يخرج مِنْهَا مَنْهِيّ عَنهُ، وَهُوَ مَذْهَب عَطاء وَمُجاهد ومسروق وَالشعْبِيّ وطاووس وَالْحسن وَابْن سِيرِين وَالقَاسِم بن مُحَمَّد، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَزفر، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث رَافع ابْن خديج الْمَذْكُور.
وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِمَا أخرجه الطَّحَاوِيّ.
حَدثنَا يُونُس، قَالَ: حَدثنَا ابْن وهب، قَالَ: أَخْبرنِي جرير بن حَازِم عَن يعلى بن حَكِيم عَن سُلَيْمَان بن يسَار عَن رَافع بن خديج، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( من كَانَت لَهُ أَرض فليزرعها أَو ليزرعها أَخَاهُ وَلَا يكريها بِالثُّلثِ وَلَا بِالربعِ وَلَا بِطَعَام مُسَمّى) .
وَأخرجه مُسلم أَيْضا، وَبِمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ أَيْضا عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث عَن عقيل إِلَى آخِره، وَسَيَأْتِي بعد عشرَة أَبْوَاب، وَبِمَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث عبد الله بن السَّائِب، قَالَ: سَأَلت عبد الله ابْن مُغفل عَن الْمُزَارعَة، فَقَالَ: أَخْبرنِي ثَابت بن الضَّحَّاك أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن الْمُزَارعَة، وَبِمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم أَيْضا من حَدِيث جَابر بن عبد الله، وَسَيَأْتِي أَيْضا هَذَا بعد أَبْوَاب، وَبِمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم من حَدِيث سَالم: أَن عبد الله ابْن عمر، قَالَ: كنت أعلم فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الأَرْض تكرى ... الحَدِيث، وَسَيَأْتِي هَذَا أَيْضا بعد أَبْوَاب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

وَلما كَانَت أَحَادِيث هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة مُخْتَلفَة الْأَلْفَاظ ومتباينة الْمعَانِي كثرت فِيهِ مَذَاهِب النَّاس وأقوال الْعلمَاء.
قَالَ أَبُو عمر: لَا يجوز كِرَاء الأَرْض بِشَيْء من الطَّعَام مَأْكُولا كَانَ أَو مشروباً على حَال، لِأَن ذَلِك فِي معنى بيع الطَّعَام بِالطَّعَامِ نَسِيئَة، وَكَذَلِكَ: لَا يجوز كِرَاء الأَرْض بِشَيْء مِمَّا يخرج مِنْهَا وَإِن لم يكن طَعَاما وَلَا مشروباً سوى الْخشب والقصب والحطب، لِأَنَّهُ فِي معنى المراقبة، هَذَا هُوَ الْمَحْفُوظ عَن مَالك وَأَصْحَابه.
.

     وَقَالَ  القَاضِي عِيَاض: اخْتلف النَّاس فِي منع كِرَاء الأَرْض على الْإِطْلَاق، فَقَالَ بِهِ طَاوُوس وَالْحسن أخذا بِظَاهِر النَّهْي عَن المحاقلة، وفسرها الرَّاوِي بكرَاء الأَرْض، فَأطلق.
.

     وَقَالَ  جُمْهُور الْعلمَاء: إِنَّمَا يمْنَع على التَّقْيِيد دون الْإِطْلَاق، وَاخْتلفُوا فِي ذَلِك، فعندهما أَن كراءها بالجزء لَا يجوز من غير خلاف، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ،.

     وَقَالَ  بعض الصَّحَابَة وَبَعض الْفُقَهَاء بِجَوَازِهِ تَشْبِيها بالقراض، وَأما إكراءها بِالطَّعَامِ مَضْمُونا فِي الذِّمَّة فَأَجَازَهُ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ.
.

     وَقَالَ  ابْن حزم: وَمِمَّنْ أجَاز إِعْطَاء الأَرْض بِجُزْء مُسَمّى مِمَّا يخرج مِنْهَا: أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي وَابْن عمر وَسعد وَابْن مَسْعُود وخبابُ وَحُذَيْفَة ومعاذ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَهُوَ قَول عبد الرَّحْمَن بن يزِيد بن مُوسَى وَابْن أبي ليلى وسُفْيَان الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد بن الْحسن وَابْن الْمُنْذر، وَاخْتلف فِيهَا عَن اللَّيْث، وأجازها أَحْمد وَإِسْحَاق، إلاَّ أَنَّهُمَا قَالَا إِن الْبذر يكون من عِنْد صَاحب الأَرْض، وَإِنَّمَا على الْعَامِل الْبَقر والآلة وَالْعَمَل، وَأَجَازَهُ بعض أَصْحَاب الحَدِيث، وَلم يبال مِمَّن جعل الْبذر مِنْهُمَا.