فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب: جف القلم على علم الله

( بابٌُ جَفَّ القَلمُ عَلى عِلْمِ الله)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ: جف الْقَلَم،.

     وَقَالَ  بَعضهم: بابُُ، التَّنْوِين.

قلت: هَذَا قَول من لم يمس شَيْئا من الْإِعْرَاب، والتنوين يكون فِي المعرب، وَلَفظ بابُُ هُنَا مُفْرد فَكيف ينون، وَالتَّقْدِير مَا ذَكرْنَاهُ أَو نَحوه، وجفاف الْقَلَم عبارَة عَن عدم تَغْيِير حكمه لِأَن الْكَاتِب لما أَن جف قلمه عَن المداد لَا تبقى لَهُ الْكِتَابَة كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي وَفِيه نظر لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: {يمحوا الله مَا يَشَاء وَيثبت} ( الرَّعْد: 93) فَإِن كَانَ مُرَاده من عدم تَغْيِير حكمه الَّذِي فِي الْأَزَل فَمُسلم، وَإِن كَانَ الَّذِي فِي اللَّوْح فَلَا وَالْأَوْجه أَن يُقَال: جف الْقَلَم، أَي: فرغ من الْكِتَابَة الَّتِي أَمر بهَا حِين خلقه وَأمره أَن يكْتب مَا هُوَ كَائِن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، فَإِذا أَرَادَ بعد ذَلِك تَغْيِير شَيْء مِمَّا كتبه محاه كَمَا قَالَ: {يمحوا الله مَا يَشَاء وَيثبت} قَوْله: ( على علم الله) ، أَي: حكم الله، لِأَن معلومه لَا بُد أَن يَقع وإلاَّ لزم الْجَهْل فَعلمه بِمَعْلُوم مُسْتَلْزم للْحكم بِوُقُوعِهِ.

و.

     قَوْلُهُ  {وأضله الله على علم} ( الجاثية: 32)
ذكر هَذَا أَي قَول الله تَعَالَى إِشَارَة إِلَى أَن علم الله حكمه كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وأضله الله على علم} أَي: على علمه فِي الْأَزَل وَهُوَ حكمه عِنْد الظُّهُور، وَقيل: مَعْنَاهُ أضلّهُ الله بعد أَن أعلمهُ وَبَين لَهُ فَلم يقبل.

وَقَالَ أبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ لي النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: جَفَّ القَلَمُ بِما أنْتَ لاقٍ
صدر الحَدِيث هُوَ التَّرْجَمَة وَهُوَ قِطْعَة من حَدِيث ذكر أَصله البُخَارِيّ من طَرِيق ابْن شهَاب عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة.
قَالَ: ( قلت: يَا رَسُول الله} إِنِّي رجل شَاب وَإِنِّي أَخَاف على نَفسِي الْعَنَت وَلَا أجد مَا أَتزوّج بِهِ النِّسَاء، فَسكت عني) الحَدِيث وَفِيه: ( يَا أَبَا هُرَيْرَة! جف الْقَلَم بِمَا أَنْت لَاق، فاختصر على ذَلِك أَو ذَر) .
أخرجه فِي أَوَائِل النِّكَاح.

وَقَالَ ابنُ عَبَّاس {لَهَا سَابِقُونَ} ( الْمُؤْمِنُونَ: 16) سَبَقَتْ لَهُمُ السَّعادَةُ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخيرَات وهم لَهَا سَابِقُونَ} سبقت لَهُم السَّعَادَة قيل: تَفْسِير ابْن عَبَّاس يدل على أَن السَّعَادَة سَابِقَة، الْآيَة تدل على أَن الْخيرَات يَعْنِي: السَّعَادَة مسبوقة.
وَأجِيب بِأَن معنى الْآيَة أَنهم سبقوا النَّاس لأجل السَّعَادَة لَا أَنهم سبقوا السَّعَادَة.

[ قــ :6251 ... غــ :6596 ]
- حدّثنا آدَمُ حدّثنا شُعْبَةُ حَدثنَا يَزِيدُ الرِّشْكُ قَالَ: سَمِعْتُ مُطَرِّفَ بنَ عَبْدِ الله بنِ الشِّخِّيرِ يُحَدِّثُ عنْ عِمْرانَ بن حُصْنٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رسولَ الله! أيُعْرَفُ أهْلُ الجَنّةِ مِنْ أهْلِ النّارِ؟ قَالَ: ( نَعَمْ) .
قَالَ: فَلِمَ يَعْمَلُ العامِلُونَ؟ قَالَ: ( كُلٌّ يَعْمَلُ لما خُلِقَ لهُ أوْ لِما يُسِّرَ لهُ) .


الْمُطَابقَة للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وآدَم هُوَ ابْن أبي إِيَاس، وَيزِيد من الزِّيَادَة الرشك بِكَسْر الرَّاء وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وبالكاف مَعْنَاهُ القسام،.

     وَقَالَ  الغساني: هُوَ بِالْفَارِسِيَّةِ الغيور، وَقيل: هُوَ كَبِير اللِّحْيَة، يُقَال: بلغ طول لحيته إِلَى أَن دخلت فِيهَا عقرب وَمَكَثت ثَلَاثَة أَيَّام وَلَا يدْرِي بهَا.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: الرشك بِالْفَارِسِيَّةِ الْقمل الصَّغِير يلتصق بأصول الشّعْر، فعلى هَذَا الْإِضَافَة إِلَيْهِ أولى من الصّفة، وَمَا ليزِيد فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الحَدِيث هُنَا، وَفِي الِاعْتِصَام، ومطرف على وزن اسْم الْفَاعِل من التطريف ابْن عبد الله بن الشخير بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالراء، وَهَذَا من صِيغ الْمُبَالغَة لمن يشخر كثيرا كالسكير لمن يسكر كثيرا.

والْحَدِيث أخرجه أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن أبي معمر.
وَأخرجه مُسلم فِي الْقدر عَن يحيى بن يحيى وَغَيره.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي السّنة عَن مُسَدّد.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن النَّضر.

قَوْله: ( قَالَ: قَالَ رجل) هُوَ عمرَان بن حُصَيْن رَاوِي الْخَبَر، بَينه عبد الْوَارِث بن سعيد عَن يزِيد الرشك عَن عمرَان بن حُصَيْن.
قَالَ: قلت: يَا سَوَّلَ الله ... فَذكره.
قَوْله: ( أيعرف أهل الْجنَّة من أهل النَّار) .
أَي: أيميز بَينهمَا؟ قيل: الْمعرفَة إِنَّمَا هِيَ بِالْعَمَلِ لِأَنَّهُ إِمَارَة فَمَا وَجه سُؤَاله؟ وَأجِيب: بِأَن معرفتنا بِالْعَمَلِ أما معرفَة الْمَلَائِكَة مثلا فَهِيَ قبل الْعَمَل، فالغرض من لفظ: أيعرف: أيميز وَيفرق بَينهمَا تَحت قَضَاء الله وَقدره؟ قَوْله: ( فَلم يعْمل الْعَامِلُونَ؟) وَفِي رِوَايَة حَمَّاد: فَفِيمَ؟ وَهُوَ اسْتِفْهَام، وَالْمعْنَى: إِذا سبق الْقَلَم بذلك فَلَا يحْتَاج الْعَامِل إِلَى الْعَمَل لِأَنَّهُ سيصير إِلَى مَا قدر لَهُ.
قَوْله: ( كل يعْمل) أَي: كل أحد يعْمل ( لما خلق لَهُ) على صِيغَة الْمَجْهُول، وَكلمَة: مَا، مَوْصُولَة أَي: للَّذي خلق لَهُ، وَفِي رِوَايَة حَمَّاد: ( كل ميسر لَهُ خلق لَهُ) وَقد جَاءَ بِهَذَا اللَّفْظ عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة.
مِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَحْمد بِإِسْنَاد حسن بِلَفْظ: كل امرىء مُهَيَّأ لما خلق لَهُ.
قَوْله: ( أَو لما يسر لَهُ) شكّ من الرَّاوِي أَي: كل يعْمل لما يسر لَهُ، بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف وَتَشْديد السِّين الْمَكْسُورَة وَفتح الرَّاء، هَذَا هَكَذَا وَرِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: لما ييسر لَهُ، بِضَم الْيَاء الأولى وَفتح الثَّانِيَة وَتَشْديد السِّين، وَحَاصِل معنى هَذَا، أَن العَبْد لَا يدْرِي مَا أمره فِي الْمَآل لِأَنَّهُ يعْمل مَا سبق فِي يُعلمهُ تَعَالَى، فَعَلَيهِ أَن يجْتَهد فِي عمل مَا أَمر بِهِ فَإِن عمله إِمَارَة إِلَى مَا يؤول إِلَيْهِ أمره.