فهرس الكتاب

إرشاد الساري - باب الجريد على القبر

باب الْجَرِيدِ عَلَى الْقَبْرِ
وَأَوْصَى بُرَيْدَةُ الأَسْلَمِيُّ أَنْ يُجْعَلَ فِي قَبْرِهِ جَرِيدَانِ وَرَأَى ابْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- فُسْطَاطًا عَلَى قَبْرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ: انْزِعْهُ يَا غُلاَمُ، فَإِنَّمَا يُظِلُّهُ عَمَلُهُ.

وَقَالَ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ: رَأَيْتُنِي وَنَحْنُ شُبَّانٌ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ -رضي الله عنه- وَإِنَّ أَشَدَّنَا وَثْبَةً الَّذِي يَثِبُ قَبْرَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ حَتَّى يُجَاوِزَهُ.
.

     وَقَالَ  عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ: أَخَذَ بِيَدِي خَارِجَةُ فَأَجْلَسَنِي عَلَى قَبْرٍ وَأَخْبَرَنِي عَنْ عَمِّهِ يَزِيدَ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: إِنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ لِمَنْ أَحْدَثَ عَلَيْهِ.
.

     وَقَالَ  نَافِعٌ: كَانَ -رضي الله عنهما- يَجْلِسُ عَلَى الْقُبُورِ.

( باب) وضع ( الجريد على القبر) ولأبي ذر: الجريدة بالإفراد.
قال في القاموس: والجريدة سعفة طويلة رطبة، أو يابسة، أو: التي تقشر من خوصها.
وقال في الصحاح: والجريد الذي يجرد عنه الخوص، ولا يسمى جريدًا ما دام عليه الخوص، وإنما سمى سعفًا الواحدة جريدة.

( وأوصى بريدة الأسلمي) بضم الموحدة وفتح الراء، ابن الخصيب، بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين، مما وصله ابن سعد من طريق مورّق العجلي: ( أن يجعل في) وللمستملي: على ( قبره جريدان) بغير مثناة فوقية بعد الدال، ولأبي ذر: جريدتان.
فعلى رواية في: يحتمل أن يكون بريدة أوصى بجعل الجريدتين داخل قبره، لما في النخلة من البركة، لقوله: { كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [إبراهيم: 24] على رواية: على، أن يكونا على ظاهره اقتداء بفعل النبي، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، في وضع الجريدتين على القبر، وهذا الأخير هو الأظهر.
وصنيع المؤلّف في إيراده حديث القبرين آخر الباب، يدل عليه، وكأن بريدة حمل الحديث على عمومه ولم يره خاصًّا بذينك الرجلين، لكن الظاهر من تصرف المؤلّف أن ذلك خاص المنفعة بما فعله الرسول، عليه الصلاة والسلام، ببركته الخاصة به، وأن الذي ينتفع به أصحاب القبور إنما هو الأعمال الصالحة فلذلك عقبه بقوله:
( ورأى ابن عمر) بضم العين ( رضي الله عنهما فسطاطًا) بتثليث الفاء وسكون السين المهملة
وبطاءين مهملتين، وبإبدال الطاءين بمثناتين فوقيتين، وبإبدال أولاهما فقط، وبإبالها وإدغامها في السين.
فهي: اثنا عشر فسطاطًا فسطاطًا فسطاطًا، فستاتًا فستاتًا فستاتًا، فستاطًا فستاطًا فستاطًا، فساطًا فساطًا فساطًا، والذي ذكره صاحب القاموس: الفسطاط، والفستاط، والفستات، والفساط.
بالطاءين وبإبدال الأولى وبإبدالهما معًا، وبتشديد السين وضم الفاء وكسرها فيهن، هو: الخباء من شعر.
وقد يكون من غيره ( على قبر عبد الرحمن) بن أبي بكر الصديق، رضي الله عنهما، كما بينه ابن سعد في روايته له موصولاً، من طريق أيوب بن عبد الله بن يسار، قال: مرّ عبد الله بن عمر على قبر عبد الرحمن بن أبي بكر، أخي عائشة رضي الله عنهما، وعليه فسطاط مضروب ( فقال: انزعه يا غلام، فإنما يظله عمله) لا غيره.

( وقال خارجة بن زيد) الأنصاري، أحد الفقهاء السبعة: ( رأيتني) بضم المثناة الفوقية، والفاعل والمفعول ضميران لشيء واحد، وهو من خصائص أفعال القلوب، والتقدير: رأيت نفسي ( ونحن شبان) بضم الشين المعجمة، وتشديد الموحدة، جمع شاب، والواو للحال ( في زمن عثمان) بن عفان في مدة خلافته ( رضي الله عنه، وإن أشدنا وثبة) بالمثلثة، أي: طفرة، مصدر من: وثب يثب وثبًا ووثبة.
( الذي يثب قبر عثمان بن مظعون) بظاء معجمة ساكنة، ثم عين مهملة ( حتى يجاوزه) من ارتفاعه.

قيل: ومنسابة ذلك للترجمة من حيث إن وضع الجريد على القبر يرشد إلى جواز وضع ما يرتفع به ظهر القبر عن الأرض، فالذي ينفع الميت عمله الصالح وعلو البناء على القبر لا يضر بصورته.

( وقال عثمان بن حكيم) بفتح الحاء المهملة، الأنصاري المدني ثم الكوفي ( أخذ بيدي خارجة) بن زيد، ذكر مسدد في مسنده الكبير: سبب ذلك مما وصله فيه عنه من حديث أبي هريرة، أنه قال: لأن أجلس على جمرة فتحرق ما دون لحمي حتى تفضي إلي، أحب إلي من أن أجلس على قبر.
قال عثمان: فرأيت خارجة بن زيد في المقابر، فذكرت له ذلك، فأخذ بيدي ( فأجلسني على قبر وأخبرني عن عمه يزيد بن ثابت) بالمثلثة أوله، ويزيد من الزيادة أنه ( قال: إنما كره ذلك) أي: الجلوس على القبر ( لمن أحدث عليه) ما لا يليق من الفحش قولاً أو فعلاً لتأذي الميت بذلك، أو المراد: تغوّط أو بال.

( وقال نافع) مولى ابن عمر: ( كان ابن عمر، رضي الله عنهما، يجلس على القبور) أي: يقعد عليها.
ويؤيده حديث عمرو بن حزم الأنصاري عند أحمد: لا تقعدوا على القبور.
فالمراد بالجلوس القعود حقيقة، كما هو مذهب الجمهور خلافًا لمالك وأبي حنيفة وأصحابه، وحديث أبي هريرة مرفوعًا، عند الطحاوي: من جلس على قبر يبول أو يتغوط، فكأنما جلس على جمر ضعيف.

نعم؛ حديث زيد بن ثابت، عند الطحاوي أيضًا: إنما نهى النبي، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، عن الجلوس على القبور لحدث غائط أو بول، رجال إسناده ثقات.
فإن قيل: ما وجه المناسبة بين الترجمة وأثر ابن عمر هذا؟ وعثمان بن حكيم الذي قبله؟

أجيب: بأن عموم قول ابن عمر: إنما يظله عمله، يدخل فيه أنه كما لا ينتفع بتظليله، وإن كان تعظيمًا له، لا يتضرر بالجلوس عليه، وإن كان تحقيرًا.
وقال ابن رشيد: كأن بعض الرواة كتبهما في غير موضعهما، فإن الظاهر أنهما من الباب التالي لهذا، وهو باب: موعظة المحدّث عند القبر، وقعود أصحابه حوله.


[ قــ :1307 ... غــ : 1361 ]
- حَدَّثَنَا يَحْيَى قال حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "أَنَّهُ مَرَّ بِقَبْرَيْنِ يُعَذَّبَانِ فَقَالَ: إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ: أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ،.
وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ.
ثُمَّ أَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً فَشَقَّهَا بِنِصْفَيْنِ، ثُمَّ غَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً.
فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ صَنَعْتَ هَذَا؟ فَقَالَ: لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمَا، مَا لَمْ يَيْبَسَا".

وبالسند قال: ( حدّثنا يحيى) هو: ابن جعفر البيكندي كما في مستخرج أبي نعيم، أو هو: يحيى بن يحيى، كما جزم به أبو مسعود في الأطراف.
أو: هو يحيى بن موسى المعروف بخت، كما وقع في رواية أبي علي بن شبويه، عن الفربري قال الحافظ ابن حجر: وهو المعتمد ( قال: حدّثنا أبو معاوية) محمد بن خازم بالخاء والزاي المعجمتين ( عن الأعمش) سليمان بن مهران ( عن مجاهد) هو: ابن جبر ( عن طاوس) هو: ابن كيسان ( عن ابن عباس، رضي الله عنهما، عن النبي، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) :
( أنه مر) ولأبي ذر: قال: مر النبي، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ( بقبرين) أي بصاحبيهما من باب تسمية الحال باسم المحل ( يعذبان.
فقال: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير)
إزالته أو دفعه، أو الاحتراز عنه، ويحتمل أن يكون نفي كونه كبيرًا باعتبار اعتقاد الاثنين المعذبين أو اعتقاد مرتكبه مطلقًا، أو باعتبار اعتقاد المخاطبين.
أي: ليس كبيرًا عندكم ولكنه كبير عند الله، كما جاء في رواية عند المؤلّف: وما يعذبان في كبير فهو كقوله: { وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15] ( أما أحدهما فكان لا يستتر من البول) يحتمل أن يحمل على حقيقته من الاستتار عن الأعين، ويكون العذاب على كشف العورة، أو: على المجاز، والمراد التنزه من البول بعدم ملابسته، ورجح، وإن كان الأصل الحقيقة، لأن الحديث يدل على أن للبول بالنسبة إلى عذاب القبر خصوصية، فالحمل عليه أولى كما مر في الوضوء ( أما الآخر فكان يمشي بالنميمة) المحرمة، وخرج به ما كان للنصيحة، أو لدفع مفسدة، والباء للمصاحبة أي: يسير في الناس متصفًا بهذه الصفة، أو: للسببية أي: يمشي بسبب ذلك.

( ثم أخذ) عليه الصلاة والسلام ( جريدة رطبة، فشقها بنصفين) قال الزركشي: دخلت الباء على المفعول زائدة.
اهـ.
يعني في قوله بنصفين، وقد تعقبه صاحب مصابيح الجامع فقال: لا نسلم شيئًا من ذلك، أما دعواه أن نصفين مفعول، فلأن شق إنما يتعدى لمفعول واحد، وقد أخذه وليس هذا بدلاً منه.
وأما دعوى الزيادة فعلى خلاف الأصل وليس هذا من محال زيادتها، ثم قال: والباء للمصاحبة، وهي ومدخولها ظرف مستقر منصوب المحل على الحال، أي: فشقها متلبسة بنصفين،

ولا مانع من أن يجتمع الشق وكونها ذات نصفين في حالة واحدة، وليس المراد أن انقسامها إلى نصفين كان ثابتًا قبل الشق، وإنما هو معه وبسبه، ومنه قوله تعالى: { وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ} [النحل: 12] اهـ.
( ثم غرز في كل قبر) منهما ( واحدة، فقالوا: يا رسول الله، لِمَ صنعت هذا؟ فقال) :
( لعله أن يخفف عنهما) العذاب ( ما لم ييبسا) بالمثناة التحتية المفتوحة وفتح الموحدة وكسرها في اليونينية، بالتذكير باعتبار عود الضمير إلى: العودين، و: ما، مصدرية زمانية أي: مدة دوامهما إلى زمن اليبس.
و: لعل، بمعنى: عسى، فلذا استعمل استعماله في اقترانه بأن، وإن كان الغالب في: لعل، التجرد.
وليس في الجريد معنى يخصه، ولا في الرطب معنى ليس في اليابس، وإنما ذلك خاص ببركة يده الكريمة.
ومن ثم استنكر الخطابي وضع الناس الجريد ونحوه على القبر، عملاً بهذا الحديث.
وكذلك الطرطوشي في سراج الملوك قائلين: بأن ذلك خاص بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لبركة يده المقدّسة وبعلمه بما في القبور، وجرى على ذلك ابن الحاج في مدخله.

وما تقدم من أن بريدة بن الحصيب أوصى بأن يجعل في قبره جريدتان، محمول على أن ذلك رأي له لم يوافقه أحد من الصحابة عليه، أو: أن المعنى فيه أنه يسبح ما دام رطبًا، فيحصل التخفيف ببركة التسبيح، وحينئذ فيطرد في كل ما فيه رطوبة من الرياحين والبقول وغيرها، وليس لليابس تسبيح، قال تعالى: { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] أي: شيء حي، وحياة كل شيء بحسبه، فالخشب ما لم ييبس، والحجر ما لم يقطع من معدنه، والجمهور أنه على حقيقته، وهو قول المحققين، إذ العقل لا يحيله أو: بلسان الحال باعتبار دلالته على الصانع، وأنه منزه.
وسبق في باب: من الكبائر أن لا يستتر من بوله من الوضوء، مزيد لما ذكرته هنا.